اخر الاخبار

توهجية الارتجاز في واقعة الطف

بقلم: حسن كاظم الفتال

منذ ان وجد الانسان على سطح الأرض وتكونت التجمعات البشرية بمرور الزمن، راحت الشعوب والمجتمعات تتنافس في السعي لابتكار وسائل تنظم حياتها بكل مفاصلها وجزئياتها وبدأ التفكير في وضع قوانين تنظم سبل العيش الكريم ولم يتوقف الأمر في موطن معين بل امتد اهتمام الشعوب ليشمل كل ما هو رائع وجميل في الحياة وكل ما ينشئ المتعة في النفس والاستئناس وهذا الأمر يستلزم إيجاد فنون معينة بمختلف أنواعها وأنماطها ولعل أول الفنون التي استخدمها الانسان هو الفن الشعري -ولا نريد الخوض الآن بالكيفيات والتفاصيل-.

وأولى اهتماما ورعاية لهذا الفن وعده جانبا من جوانب بيان المجد وتدوين التأريخ والتراث وحَسَبَه عنصرا من عناصر الحرص على حفظ وصيانة موروثه. لذا فإن العرب ومنذ القدم وربما بمجمل قبائلهم اهتموا واشتهروا بصناعة الشعر ونظم القصائد الغزيرة من تلك التي تفيض بمعانٍ جمة تخص مجالات مختلفة كثيرة وعدوا هذا الفن من أجمل واروع الفنون وحقا هو أرقى الفنون أبدعوا فيها واعتزوا بها غاية الاعتزاز واتخذوا الشعر وسيلة للتعبير عن المشاعر والأحاسيس والإعلان عن القدرات والمهارات الفائقة وكذلك بيان السجايا والصفات الحميدة وحتى التعريف عن العادات والتقاليد ومكارم الأخلاق وكذلك اتخذوه أواناً للتحدث عن التجارب التي اكتسبها الشاعر وراح يُحَوِّل التفاصيل إلى قوافٍ سلسلة لا يتذوقها المتلقي فحسب بل يتفاعل ويذوب بها غاية الذوبان، والكثير من القصائد كانت تتدفق بها غزارة الفيض الحكمي وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن من الشعر حكما و إن من البيان سحرا) إذ أنه يُوقع في النفوس أثرا حيث هو كلام منمق مموسق متسق يتناغم مع رقة المشاعر والهواجس ويعبر عنها وقد قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: (أحسن الكلام ما زانه حسن النظام، وفهمه الخاص والعام) وقال عليه السلام: (أحسن الكلام ما لا تمجه الآذان، ولا يتعب فهمه الأفهام)
وقد بدأ العرب بصناعة الشعر على السليقة السليمة معتمدين على الموهبة المكتسبة والقدرة الفائقة على صناعة الابداع ولعل من مدلولات وشواهد المفاخر بصناعة هذا الفن ومن افرازاته وجود المعلقات العشر أو السبع وكذلك سوق عكاظ.

تلك المعلقات التي أنزلت بعد نزول القرآن الكريم على صدر النبي محمد صلى الله عليه وآله خصوصا عندما نزلت الآية الكريمة (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) ـ هود /44 فإن إبراقات جمالية النصوص الشعرية وشفّافيتها وجودتها واحتواءها سلاسة ورِقة وعذوبة الكنايات والاستعارات المنتقاة بدقة متناهية لفتت عناية الكثير من أفراد القبائل واستقطبتهم واستهوتهم فاختزنت ذاكراتهم قصائد كثيرة احتشدت بها صدورهم وراحوا يحفظونها عن ظهر قلب بمعانيها الجذابة حين يتلقونها بالسماع والقراءة والإعادة ويستأنسون بوجود الشاعر وإلقاء ما تجود به قريحته وما يمليه عليه وحي إلهامه.

ويبدو أن أول ما ظهر في الاستخدامات الأدبية الشعرية القبائلية الإفتخارية وغيرها هو الرجز؛ والرجز هو ضرب من ضروب الشعر استخدمه العرب ثم اصطفاه الفراهيدي ليدرجه في بحور الشعر الصافية ذي المفردة الواحدة.

أي أن تفعيلته متشابهة لا تختلف الواحدة عن الأخرى (مستفعلن مستفعلن مستفعلن) يمتاز بقلة الاصوات وبخفة النطق على اللسان وبسرعة الإيقاع ويصلح لنظم كل ما هو خفيف وسريع في الترنيمة والايقاع النغمي.

وربما سرعة الايقاع أو الخفة وسهولة نظمه أدت إلى أن يكون هذا البحر أو الضرب الشعري دافعا للحماس لذا فقد أصبح يستخدم في النزالات وقبل ذلك في الحُداء.

ولعل أول من استخدم الرجز هم العرب في الشعر الحُدائي الذي يستوطن البادية تنشده القبائل البدوية إذ أنه من أصناف الحدي؛ ثم وجد له المكان الأبرز والأكثر ملاءمة والذي اشتد فيه الارتجاز هو ميدان الحرب والقتال حيث اعتاد الفرسان والشجعان منهم بالأخص عند النزول إلى ميدان القتال والمنازلة والمبارزة أن يشرعوا بالارتجاز. حيث أن الفارس مرة بالارتجاز يعرف الآخرين بنفسه وعشيرته وحسبه ونسبه ويفخر بذلك وتارة يبين سبب نزاله ومبارزته دفاعا عن العقيدة كان أو الشرف وأخرى يفصح به عن شجاعته وعسى أن يرهب في ذلك خصمه أو من ينازله بالقتال والشواهد كثيرة على ذلك تستبطنها أدبيات القبائل العربية والوقائع التأريخية.

وساحة الطف غدا ميدانها مرتجزا
وربما يحق لنا القول: بأن اكثر ما استخدم الرجز والارتجاز وبصيغه المشرفة في واقعة الطف من قبل أصحاب الإمام الحسين صلوات الله عليه.

إذ أنهم صلوات الله عليهم ضربوا المثل الأعلى بالجهاد والتضحية والفداء والإباء والعنفوان والكبرياء وجسدوا صورة الجهاد الحقيقي للدفاع عن رسالة السماء العظيمة التي تتمثل بسبط رسول الله صلى الله عليه وآله الإمام الحسين صلوات الله عليه.

فهم قد استهانوا بالحياة وأرخصوا دماءهم الزكية في سبيل العقيدة وحامي العقيدة الامام الحسين صلوات الله عليه ولم يجعلوا الارتجاز مفاخرة بحسب أو نسب أو عشيرة أو جاه أو غير ذلك إنما يجسد صور التضحية والفداء للعقيدة وصلابة الإيمان .وكل منهم يمضي والحسين عليه السلام يشيعهم بأنفاسه الشريفة وهو يتلو قول الله تعالى: (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) ـ الأحزاب /23

وأول فاتح لسجل الشهادة ليدون اسمه فيه والذي شرع باب التوبة على مصراعيه التائب العائد المتوسم بالهداية بكل جلالتها وقدسها والمرتدي جلباب الرحيل إلى الخلد والسالكُ سبيل الحرية والأحرار والناظرُ للحسين عليه السلام ببصيرته لا ببصره ألا أنه الحر الرياحي. يمضي سابلا جفنيه ليستأذن مولاه بدموعه المنسكبة صابرا محتسبا ويتوسله بالقبول واستحصال الإذن لكي يصوِّب وجهه شطر ميدان الجهاد ومنه إلى الخلود فيأذن له سيد الشهداء عليه السلام فيبرز ويتخذ من الإرتجاز وسيلة للإعلان عن سبب انتقاله من دهاليز الجهالة والضلالة المظلمة إلى آفاق الحق والهداية والاستنارة . ومن أجل أن يطلعهم على ذلك ويُعلمهم أن هذا هو الحق ولابد من سلوك سبيله لبلوغ الصراط المستقيم والفوز بالنجاة كذلك يعلن عن قوة بأسه وصلابة عقيدته ويبين سبب انتقاله فيرتجز رافعا صوته:
اني أنا الحر ومأوى الضيف * أضرب في أعناقكم بالسيف
عن خير من حل بارض الخيف * أضربكم ولا أرى من حيف

ثم تتابع قافلة الشهادة سيرها ويمضي ركبها بمسير حثيث ويترقب الأنصار الاحداث وما يجري ليتبع كلٌ منهم الآخر ويضج ميدان القتال بالارتجاز.

وكلٌ من الأصحاب الكرام الميامين يبرز وقبل ولوج ميدان القتال ينحني أمام سيده سيد الشهداء ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله الامام الحسين عليه السلام وكلٌ منهم يستأذنه بالذهاب الى الشهادة وهو صلوات الله عليه يستصبرهم وينادي صبرا على الموت فإن الموت لاقيكم لا محال؛ أرواح تستعد للحوق بمن سبقها وتنتظر أوان عروجها إلى الأفق الأعلى وقلوب يعتصرها الشوق تصطف ليهامس نبضُها أنفاسَ سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام يلهبها أجيج التوق للرحيل اشتياقا لا نظير له ينطلق من بينها شيخ وقور مجاهد فذ وهو من أشرف الرجال ومن كبار شيوخ قبيلة بَجيلة في الكوفة ويعلن عن رحيله الأبدي والرغبة بالإلتحاق بجد الحسين صلى الله عليهما وآلهما إنه زهير بن القين يتقدم هاتفا: أقـدِم هُديت هادياً مهديا الـيوم نـلقى جدّك النبيّا
وحـسناً والمرتضى عليا وذا الجناحينِ الفتى الكميا
وأسـدَ اللهِ الشهيد الحيّا
ثم يقتحم الميدان ليقاتل فيرتجز :
أنـا زهيرٌ وأنا ابنُ القينِ أذودكم بالسيفِ عن حسينِ
إنّ حـسيناً أحـدُ السبطينِ من عترةِ البرِّ التقي الزينِ
ذاكَ رسولُ الله غيرُ المينِ أضربكم ولا أرى من شينِ
يا ليت نفسي قسّمت قسمينِ

العازمون على دفع الملمات
وبما أنا أصحاب الحسين عليه السلام هم كوكبة مختارة تختلف أجناسهم وأعمارهم وانتماءاتهم وقبائلهم وتوجهاتهم قبل الالتحاق بركب الحسين صلوات الله عليه فيبرز شيخ يرفع حاجبيه بعصابة قدس هو غير آبه بجمعهم فيعلن عن كبرياء روحه وعدم اهتمامه بكثرة عددهم وعدتهم وبعد أن يعرف نفسه يحاججهم ويذكرهم بالوفاء والتقوى وكم أنهم بعيدون كل البعد عن ذلك كله فيقول:
أنا حبيبٌ وأبي مظهر ** فارسُ هيجاء وحرب تسعر
أنتم أعدُ عُدة وأكثر ** ونحن أوفى منكمُ وأصبر
ونحن أعلى حجة وأظهر** حقا وأتقى منكم وأعذر
حتى يُلقي تحية الوداع على الحسين عليه السلام ويشرع بالالتحاق بركب الخلود
فيعقبه غلام استشهد ابوه في الحملة الأولى فيقتفي أثره ويبرز ممتشقا سيفه الذي قصرت له أمه حمائله وندبته إلى إفتداء سيده بنفسه.
فيعرفهم بنفسه ولكن ليس بطريقة أبناء العشيرة المتفاخرين بعشيرتهم إنما يقول:
أميري حسين ونعم الامير * سرور فؤاد البشير النذير
علي وفاطمة والداه * فهل تعلمون له من نظير ؟
له طلعة مثل شمس الضحى * له غرة مثل بدر منير
فيحرز مراده ويحقق مراد أمه التي تحمل رأسه بعد أن رُميَّ إليها وتقتل به رجلا
فيسوقها الشوق لأن تصادق على ارتجاز ابنها بارتجاز ليلتقيا ويمضيا معا إلى خلود أبدي وتعلن عن ذلك ساعة تخبرهم وتقول:
أنا عجوز في النسا ضعيفة * خاوية بالية نحيفة
أضربكم بضربة عنيفة * دون بني فاطمة الشريفة
فأنها أبت إلا انت تواسي أم الحسين صلوات الله عليهما بابنها وتدون للنساء مرتبة فخر إذ هي أول أم ترافق ابنها لجنان الخلد.
ومثلما أن هذا الغلام ليس هو الأول فهو ليس بالآخر من الفادين الحسين عليه السلام بكل غالٍ ونفيس فقد تبعه رهط من النجوم الزاهرة.

حاصدو الخيبة والخذلان
إن ما يجدر بنا أن نشير إليه اننا لم نقرأ ولم نسمع بأن أحداً من أصحاب عمر بن سعد عليه وعليهم لعائن الله برز وارتجز. فكل الذين تحدثوا ونقلوا أخبار وأحداث واقعة الطف لم يذكروا لنا أن أحدا منهم قد برز وهو يرتجز وهذا الأمر إنما يشير إلى مدلولات ودلائل عديدة فهم إن لم يكونوا تائهين بأودية الضلال فلعلهم أدركوا تمام الادراك بأنهم أتباعٌ رعاعٌ لأئمة الجور والضلالة ومناصرون للباطل وما هم إلا عمال اتخذهم يزيد وعمر بن سعد لعنهما الله لاغتيال ريحانة رسول الله صلى الله عليه وآله. ولعل بعضا منهم لا اصل ولا نسب له فالكثير منهم هم من الهجناء أو ابناء من لم يصن حلائله.

إنما ساقهم حكام الجور والضلالة إلى جهنم وبئس المصير وبقي الحسين صلوات الله عليه وأصحابُه الكرام الميامين عليهم السلام أحياءً عند ربهم يرزقون يطوفون في جنان الخلد وينعمون إلى يوم يبعثون.