بقلم: القاضي عامر حسن شنته
يقول الله جل شأنه في محكم كتابه الكريم موصياً بالوالدين بعد التوحيد به،((…. وقُل لهُما قولاً كريماً)) سورة الإسراء : الآية 23. وحين سأل سعيد بن المسيب عن ذلك القول الكريم، قال إنه (قول العبد المذنب للسيد الفظ). وطالما كانت معاملة الوالدين في مجتمعنا، معياراً للفضيلة في الدنيا و عظيم الجزاء في الآخرة. يتمايز بها الناس ويتفاخرون بقدر رعايتهم وعنايتهم بالآباء والأمهات.
ولا تزال تلك شيمة أكثر الناس. لكن التغيرات الكبيرة التي عصفت بمجتمعنا، أسهمت بشكل كبير في تغير منظومة القيم والأخلاق عند البعض، الأمر الذي أدى إلى ازدياد حالات عقوق الوالدين في الآونة الأخيرة.
واستوجب في النهاية مع شديد الأسف وجود حاجة ملحة لتجريم تلك الحالات بنصوص واضحة وصريحة. تنقل البر بالوالدين من مستوى الفضيلة والقيم، لتدخله في نطاق الحقوق المحمية بنصوص التجريم. خاصة وان المادة (29/ثانياً) من الدستور العراقي نصت على أن للوالدين حق على أولادهم في الاحترام والرعاية، ولاسيما في حالات العوز والعجز والشيخوخة.
وهذا ما فعله المشرع العراقي في القانون رقم (10 لسنة 2024) قانون تعديل قانون العقوبات العراقي. والذي ألغيت بموجبه المادة (384) عقوبات، وأعيدت صياغتها بالكامل. مستحدثاً فيها جريمة (عقوق الوالدين). والتي وردت في الفقرة (ثانياً) من المادة المذكورة آنفاً. علماً بأن المشرع سبق أن أورد عدة نصوص للعديد من الجرائم التي قد تطال (أصول الجاني)، ومنها الجرائم المنصوص عليها في المادة (3/أ/3) الأصولية والتي لا تحرك الشكوى فيها إلا بناءً على شكوى المجنى عليه.
كما عد وقوع بعض الجرائم على (أصول الجاني) ظرفاً مشدداً مثل ما ورد النص عليه في المواد (406 /1/د)و (410) و(414 /3) عقوبات. غير انه نص في هذه الجريمة على صور أخرى مختلفة تماماً عن الجرائم الشائعة التي قد تطال الأصول. وكانت غايته في ذلك كما نص في الأسباب الموجبة للتشريع هي (تجريم الأفعال التي تدخل تحت مفهوم عقوق الوالدين وحماية للأسرة والنظام الاجتماعي).
وهو توجه سارت عليه العديد من الدول العربية ،سواء تلك التي جرمت عقوق الوالدين، أو تلك التي لا تزال في طور تجريمه. وعوداً على نص المادة (384/ثانياً) عقوبات، نجد أن الركن المادي للجريمة يتمثل في ارتكاب فعل من الأفعال الآتية (الإهانة،الصياح،التبرؤ،الترك وغير ذلك). وهي من الجرائم العمدية التي تتطلب توافر القصد الجرمي لارتكاب تلك الأفعال.أما عقوبة تلك الجريمة فهي (الحبس والغرامة أو إحدى هاتين العقوبتين) مع عدم الإخلال بأية عقوبة أشد.
وتنقضي الدعوى بتنازل المجنى عليه عن شكواه قبل صدور حكم نهائي فيها،ويوقف تنفيذ الحكم فيها إذا حصل التنازل بعد صدور الحكم. ومن الملاحظات التي ينبغي إيرادها على النص، أن المشرع نص على أربعة صور تندرج ضمن مفهوم عقوق الوالدين، وترك النص مفتوحاً لغيرها من الصور بقوله (وغير ذلك).
وهذا يعني أن تلك الصور وردت على سبيل المثال وليس الحصر. ويبقى للمحكمة السلطة التقديرية في اعتبار بعض الأفعال داخلة ضمن جريمة عقوق الوالدين، تقدرها في ضوء وقائع الدعوى وأدلتها. وان تطلب الأمر الاستعانة بالخبراء استناداً إلى أحكام المادة(69) الأصولية.
ونرى إن صياغة النص بهذه الطريقة قد تثير بعض اللبس عند التطبيق، وكان الأجدر صياغتها على النحو الآتي:(وغير ذلك من قبيل تلك الأفعال). كي تصبح الصور المتقدمة معياراً تستدل به المحكمة عند إعمال سلطتها التقديرية. وبخلاف ذلك قد يتم إدخال أفعال أخرى جرمها القانون بنصوص مستقلة ضمن جريمة عقوق الوالدين، مثل جرائم الإيذاء والتهديد وإتلاف الأموال.
أما القول بأن المشرع نص على عقوبة جريمة عقوق الوالدين، مع عدم الإخلال بأي عقوبة أشد وبالتالي أجاز تطبيق النصوص المتعلقة بتلك الجرائم في حال كانت عقوبتها أشد .فإننا نرى أن ذلك يخص وجود عقوبة اشد لجريمة عقوق الوالدين بصورها المذكورة وما يماثلها، أي عند وجود نص يعاقب على جريمة تمثل اعتداء على ذات المصلحة المحمية، وتتضمن نفس الشروط والأركان المفترضة.
وغني عن البيان أن المصلحة المحمية في جريمة الإيذاء العمد مثلاً، تختلف عن (المصلحة المحمية) في جريمة عقوق الوالدين. إذ تهدف الأولى إلى حماية بدن الإنسان.في حين تهدف الثانية إلى حماية الأسرة والنظام الاجتماعي. كما تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى من حيث (أركانها وشروطها). وبالتالي لا يمكن عد تلك الجرائم صورة من صور عقوق الوالدين تبيح تطبيق النص الخاص بتلك الجريمة للأسباب المذكورة آنفاً.
يبقى أن نشير إلى إمكانية تحقق صورة التعدد المعنوي في الفعل الواحد المرتكب من الجاني بحق أصله، مثل فعل الإهانة أو الصياح، مع جريمتي السب والقذف. أو أن يكون هناك تعدداً حقيقياً مثل فعل التبرؤ، وجريمة الإيذاء العمد .تطبق فيها المحكمة أحكام التعدد المنصوص عليها في قانون العقوبات، كل بحسبه.