اخر الاخبار

حوار مع الدكتور علي المؤمن حول مشروعه الفكري النهضوي

حاوره: محمد القذافي مسعود

(أديب وكاتب ليبي)

    الدكتور علي المؤمن؛ مفكر إسلامي عراقي وباحث متخصص في الفكر السياسي الإسلامي، مواليد العراق في العام ١٩٦٤ م، يحمل شهادة الدكتوراه في القانون الدستوري الإسلامي من الجامعة العالمية الإسلامية في لندن، لديه (٢٤) كتاباً مطبوعاً، تُرجم بعضها الى أكثر من لغة، بينها: «سنوات الجمر»، «النظام العالمي الجديد»، «الإسلام والتجديد»، «الغزو الطائفي»، «من المذهبية إلى الطائفية»، «صدمة التاريخ»، «الفقه والسياسة»، «الفقه والدستور»، «النظام السياسي الإسلامي الحديث»، «تجديد الشريعة»، «المستقبلية الإسلامية»، «من المعاصرة إلى المستقبلية»، «الفكر الإسلامي المستقبلي»، «جدليات الدعوة»، «مقاربات في الفكر والثقافة»، «مدخل الى القانون الدستوري الإسلامي»، ولديه أيضاً مئات الدراسات والمقالات المنشورة في الدوريات العربية والأجنبية.

    ترأس تحرير عدد من المجلات البحثية والفكرية، كمجلة التوحيد ومجلة المستقبلية ومجلة شؤون مشرقية. كما عمل مديراً لعدد من مراكز الدراسات والمؤسسات الإعلامية والثقافية في لبنان والعراق، كالمركز الإسلامي للدراسات المستقبلية والمجموعة الدولية للدراسات والإعلام ومركز دراسات المشرق العربي، أشرف على عدد من رسائل الدراسات العليا، شارك في عدد كبير من المؤتمرات الدولية في أكثر من خمسة وعشرين بلداً.

    وكُتب عن سيرة الدكتور علي المؤمن ومؤلفاته ومشروعه الفكري عدد كبير من رسائل الدراسات العليا والكتب والدراسات والمقالات والتقارير.

    لقد كانت معرفتي بالمفكر الإسلامي الدكتور علي المؤمن فرصة معرفية جديدة، بعد أن اطّلعت على بعض مؤلفاته وكتاباته المتوفرة على الإنترنيت، وتأسفت على عدم توافرها كلها، لكي يطلع الباحثون والمثقفون على تأصيل وتجديد في مجالات فكرية ربما لم يألفوها من قبل، وخاصة في مجال الفكر السياسي الشيعي والاجتماع الشيعي. وتولّد عندي أكثر من دافع للتواصل مع الدكتور المؤمن ومحاورته، من أجل التعريف بهذا اللون من التأصيل والتجديد؛ فكان لي ذلك ابتداءً:

    يظهر تركيزك واضح في مقالاتك ودراساتك على المذهب والفكر الشيعي والحفر عميقاً فيه، ومعالجتك لما تراه يحتاج إلى معالجة، ألا ترى أن هذا نوع من الانغلاق والانغماس في اتجاه واحد؟

    علي المؤمن: بسم الله الرحمن الرحيم. شكراً لتوفير فرصة الحوار. لو راجعت مؤلفاتي ودراساتي ومقالاتي فستجد أنني أكتب في إطار أربع دوائر: الدائرة العامة والدائرة الإسلامية والدائرة الشيعية والدائرة العراقية، وهي دوائر تكمل بعضها، وبينها عموم وخصوص، وكلها تصب في مشروعي الفكري الإسلامي النهضوي المعاصر. وأغلب كتاباتي تخصصية ومنهجية، وهذا التخصص لا يعني انغلاقاً وانغماساً في اتجاه واحد؛ كالمتخصص في أي شأن علمي آخر، بل هو مطلب العصر؛ إذ لا يمكن لأي إنسان؛ مهما بلغت موسوعيته أن يتخصص في مجالات كثيرة.

    لدي مؤلفات وبحوث أكاديمية في الفكر السياسي والاجتماع السياسي والقانون الدستوري الإسلامي والفقه السياسي الإسلامي، ولدي أيضاً مؤلفات وكتابات في تجديد الفكر الإسلامي والفكر الإسلامي المستقبلي واستشراف المستقبل الإسلامي، ولدي مؤلفات وبحوث في الاجتماع الشيعي والفكر الفقهي الشيعي المعاصر، وكذلك مؤلفات وبحوث في تاريخ العراق السياسي المعاصر. وبالتالي؛ فلا تقتصر كتاباتي على الموضوع الشيعي؛ بل أن هذا الموضوع هو جزء من مشروعي الإسلامي النهضوي العام كما ذكرت.

لكن هذا التركيز واضح في كتاباتك الكثيرة في الموضوع الشيعي!

    علي المؤمن: حتى مؤلفاتي وكتاباتي في الموضوع الشيعي، ليست مذهبية أو دينية غالباً، إنما ترتبط بالاجتماع السياسي والاجتماع الديني والاجتماع الثقافي واجتماع المعرفة، أي أن هدفها تعريف الشيعي بمنظومته الفكرية واجتماعه الديني، وتعريف غير الشيعي بالشيعة والتشيع. وهذا التعريف هو الدافع الموضوعي؛ لأنني من خلال زياراتي المتكررة لأكثر من (20) بلداً عربياً ومسلماً وإقاماتي الطويلة في خمسة بلدان، ولقاءاتي بالمسلمين من كل المذاهب الإسلامية؛ وجدت أن أحد أهم مسارب الطائفية والتعصب المذهبي والطائفي، هو الجهل المتبادل، وعدم معرفة معتقدات وأفكار ومسارات أتباع المذاهب الإسلامية ببعضهم، وخاصة أتباع المذاهب السنية؛ فقد وجدت عدم معرفة عجيبة بمعتقدات وأفكار مدرسة آل البيت المعروفة بالمذهب الشيعي، واتهامات وافتراءات غريبة، لا تمت إلى الحقيقة والواقع بأية صلة.

ما هي أسباب عدم المعرفة التي تصفها بالعجيبة؟

    علي المؤمن: يعود ذلك إلى عاملين: تعمد شيوخ أهل السنة تكريس حالة عدم المعرفة بالمذهب الشيعي في أوساط أتباع المذاهب السنية، وعدم رغبة أتباع المذاهب السنية بالتعرف على المذهب الشيعي والشيعة. ولعل هذا الأمر يشكل مأزقاً معرفياً كبير حتى لدى النخبة السنية؛ فهي النخبة لا تعرف عن التشيع والشيعة إلّا من خلال كتب خصومهم.

    ومن مخرجات هذا الجهل المعرفي؛ ظهور مشكلة عند النخب السنية، السياسية والثقافية والدينية، من بينها أنها لا تزال تنظر إلى الشيعية بوصفهم أقلية مذهبية لا قيمة لها، ويمكن الاستمرار في تهميشها وعزلها، والحال؛ أن الشيعة هم أتباع ثالث أكبر مذهب إسلامي، بعد المذهبين الحنفي والمالكي؛ إذ يصل تعدادهم إلى حوالي (400) مليون نسمة، وهم الأغلبية السكانية في خمسة دول إسلامية، ويتواجدون بكثافة وفاعلية في كل دول العالم تقريباً، وهم اليوم يشاركون مشاركة أساسية في قيادة النهضة الإسلامية العالمية.

    وهنا تبرز المشكلة الثانية، التي تتمثل بتجاهل النخب السنية لهذا الدور الشيعي المركزي إقليمياً ودولياً، بما في ذلك دور الشيعة العرب، ومحاولة إعاقته والانتقاص منه، سياسياً وإعلامياً وأمنياً، مع أنه دور يصب في مصلحة جميع المسلمين.

    أما المشكلة الثالثة؛ فتتمثل في اتهام الشيعة العرب بأنهم تابعون لإيران، وأنهم ينفِّذون أجندات إيرانية، وهي تهمة تنم أيضاً عن جهل عميق بالمسألة الشيعية؛ فالشيعة بطبيعة تكوينهم، منذ (1400) عاماً هم نسيج اجتماعي ديني شبه واحد، ويجمعهم نظام اجتماعي ديني شبه موحد، ومرجعيات قيادية دينية واحدة، وحوزات علمية واحدة، وعادات وتقاليد وطقوس دينية اجتماعية واحدة، ومراقد دينية واحدة، والأهم من كل ذلك المظلومية التاريخية الواحدة، وإحساسهم بالاستهداف المشترك. وهذا الكم من العناصر التي تجمعهم هي أكبر بكثير من اللغات والقوميات والأنثروبولوجيا التي تفرِّقهم. وهذا الواقع لا يمكن لأحد تغييره مهما بلغت سطوته، وهو ما جربته السلطات الأموية والعباسية والعثمانية، وصولاً إلى الأنظمة الحالية؛ إذ يستحيل تمزيق النسيج الاجتماعي الديني الشيعي؛ لأنه نسيج عقدي، وينبغي التعامل معه كما هو، لا كما يريد الآخر المذهبي والسياسي والحكومي.

هل هذا يعني أن الشيعي يمكنه الموازنة بين انتمائه لوطنه وانتمائه إلى منظومته الدينية؟     

     علي المؤمن: لقد تحدثت عن هذا الموضوع كثيراً. شيعة كل بلد عربي ومسلم مواطنون يحبون أوطانهم ويعتزون بالانتماء إليها، ولا يقفزون على القانون الذي يجمعهم بأهلهم في الوطن. ولكن في الوقت نفسه؛ يطالبون بالمساواة في المواطنة على كل الصعد، وبالحرية في الانتماء إلى مؤسستهم الدينية، وإن كانت خارج الحدود؛ أسوة بكل الأديان والمذاهب، التي تتمركز مؤسستها الدينية في بلد معين، ويتوزع أتباعها في بلدان مختلفة. أي أن الشيعة يشكلون نظاماً اجتماعياً دينياً عالمياً، منذ عصر الأئمة الإثني عشر. وتجد أحياناً مركزية هذه النظام في المدينة المنورة، وأخرى في الكوفة، وثالثة في بغداد، ورابعة في النجف، ثم في الحلة، أو جبل عامل بلبنان، وكذلك في قم، وسادسة في كربلاء، أي حيثما وُجد المرجع الديني الأعلى للشيعة في العالم، وغالباً ما كانت هذه المركزية في النجف الأشرف بالعراق. ولم ينظر الشيعة يوماً إلى جنسية المرجع الأعلى وقوميته؛ بل هناك ضوابط علمية ودينية وعقلية هي التي تفرزه مرجعاً أعلى، وهذا المرجع يقلِّده، أي يرجع إليه بالفتوى والشأن العام، أغلب شيعة العالم، بصرف النظر عن جنسياتهم وقومياتهم.

من هي المرجعية التمثيلية التي ينقاد إليها الشيعة اليوم؟

    علي المؤمن: المرجعيتان الأكبر في العالم اليوم، هما مرجعية آية الله السيد علي الحسيني السيستاني في النجف بالعراق، ومرجعية آية الله السيد علي الحسيني الخامنئي في طهران، ويعود إليهما بالتقليد مئات ملايين الشيعة. ولذلك؛ فالعراقي الذي يقلد مرجعاً إيرانياً؛ فهو ليس عميلاً له؛ بل هو يرجع إليه بالتقليد الديني وبالشأن العام، وكذا الأمر بالنسبة الإيراني الذي يقلِّد مرجعاً عراقياً. وهذا التقليد هو تبعية دينية واجتماعية دينية وليست تبعية سياسية. ويعلم الجميع في المنظومة الدينية الشيعية بأن هذين المرجعين الكبيرين يتركان للمراجع ولعلماء الدين المحليين في البلدان الأخرى حرية تحديد المواقف في جميع المجالات الحياتية، بما يتناسب ومصلحة شيعة كل بلد، ولا يفرضان مواقف محددة، وهو ما تعرفه حتى الأنظمة المتشددة المتخاصمة مع الشيعة.

     ينبغي الإشارة هنا إلى موضوع مهم آخر، هو الموضوع الميداني  ؛ يضاف إلى الموضوع العقدي الموحِّد، ويتعلق بالتحديات المشتركة التي يتعرض لها الشيعة بشكل عام، بصفتهم المذهبية؛ فإحساس الشيعة بالتحديات السياسية والحقوقية والدعائية المشتركة نفسها، وأنهم يتعرضون معاً إلى فتاوى التكفير والإخراج من الدين والأُمة، وإلى محاولات التهميش والاستضعاف والتآمر نفسها، وإلى مصادرة حقوقهم وحرياتهم الدينية والمدنية والسياسية؛ تجعلهم يتحالفون مع بعضهم، ويساندون بعضهم، وكلما ازدادت وتيرة التحديات والتهديد؛ ازدادت قوة انشداد الشيعة ببعضهم، وهو رد فعل إنساني طبيعي. وبالتالي؛ فهذه التحالفات واقع لا يمكن نكرانه، وهي تمثل حاجة مشتركة ومصلحة متبادلة. وبالتالي؛ فمن السذاجة القول بأن بعض الشيعة عملاء لبعضهم الآخر، وأن بعضهم تابع لبعضهم الآخر، أو أن بعضهم ينفذ أجندات بعضهم الآخر، إلّا أنهم يجدون أنفسهم في مرمى مدفعية واحدة؛ فيضطرون إلى حماية بعضهم الآخر، وهو رد فعل يقوم على خلفية عقدية وإنسانية طبيعية.

ولماذا لا تنفتح شخصياً على النخب السنية وتفاتحهم بهذه الإشكالية؟

     علي المؤمن: انفتاحنا على النخب السنية قديم وقائم، فقد كنا نقول دائماً لأهلنا وأصدقائنا في المؤسسات الدينية والحكومية السنية والحركات الإسلامية والقومية السنية، بأن ما تقومون به من تجهيل لعموم السنة وتحريضهم ضد الشيعة إعلامياً وسياسياً وطائفياً، والعمل على محاصرة الشيعة وتهميشهم والضغط عليهم؛ يؤدي إلى ردود فعل عكسية. في حين أن التعامل بتوازن مع الشيعة كمجتمع ديني، ومع جماعتهم كجماعات دينية أو سياسية لها ما للجماعات السنية من الحقوق والحريات، ومع مؤسستهم الدينية كالتعامل مع المؤسسة الدينية السنية، ومع الشيعي كمواطن مسلم له الحقوق والحريات السياسية والمدنية والدينية نفسها التي يتمتع بها السني؛ سيقضي على الطائفية والتعصب، وستخلق مظاهر حقيقية للتواد والتراحم والتعايش والتعاضد والتعاون بين جميع المسلمين.

    وهذا ما أقوم به بالضبط في مؤلفاتي وكتاباتي في الشأن الإسلامي العام والشيعي الخاص؛ أي محاولة تفكيك المشكلة الطائفية عبر الكشف عن مظاهرها المعاصرة، والدعوة لاجتثاثها، والتبشير بواقع عربي وإسلامي متعايش ومتضامن. وجزء من مظاهر هذه المشكلة هو الجهل كما ذكرت، و((الإنسان عدو ما يجهل)). وأعتقد أن التعارف العقدي والفكري والمذهبي بين المسلمين، هو مدخل الحوار، والحوار هم مدخل التفاهم، والتفاهم هو مدخل تقارب المسلمين وتعايشهم وتعاونهم، وخاصة بين العرب الشيعة والعرب السنة، والتعايش هو مدخل وحدة الأوطان، ووحدة المسلمين في مواجهة التحديات العميقة التي تواجههم، سواء في مجال السياسة الدولية والإقليمية أو المجال الاقتصادي والتنموي أو المجال العلمي والثقافي.

    ولذلك؛ وجدت أن المصلحة الإسلامية العامة، ومصلحة الشيعة والسنة معاً؛ تقتضي أن أقوم بهذا الدور المهم؛ فنشرت عدداً من المؤلفات والبحوث التي وجدت أصداءً طيبةً، حتى عند بعض النخب السنية المعتدلة، وبالتالي؛ أجد أنني استطعت النجاح نسبياً في هذا المجال.

كيف يمكن إقناع النخب الشيعية والسنية بخطاب نهضوي مشترك؟

    علي المؤمن: أود هنا الإشارة إلى قضية قَدَرية مهمة تتعلق بهذا الخطاب المشترك الذي هو قوام النهوض العربي والإسلامي. فقَدَر النهضة العربية والإسلامية المعاصرة أنها تحلق بجناحين، هما الجناح الشيعي والجناح السني، ولا يمكن إطلاقاً، لأي منهما تجاهل الآخر وإعاقة حركته أو استئصاله؛ لأنه سيؤدي إلى سقوط العرب والمسلمين جميعاً. في حين أن دعم الجناحين لبعضهما سيحقق قدرة هائلة على النهوض والنمو والصعود والنمو الشامل. وأنا من خلال كتاباتي أدعو إلى تكريس قوة الجناح الشيعي وتكريس رصانة الجناح السني؛ ليحلقا بالنهضة بالتوازن نفسه. هذا قدر الطرفين، ويستحيل تغيير هذا القدر بأي شكل من الأشكال.

    تبدو المقارنة بينك وبين الدكتور علي شريعتي لها عدة اتجاهات ومقاصد، منها التركيز على المذهب الشيعي فكرياً وواقعياً، فيما تقدمه أنت من بحوث ودراسات، وهو اهتمامك الرئيس؟

    علي المؤمن: ذكرت في إجابة سابقة أن اهتمامي بموضوع الاجتماع الشيعي هو جزء من مشروعي الفكري الإسلامي النهضوي، وليس كل مشروعي. وأنا في هذا المجال أختلف مع خطاب الدكتور علي شريعتي وأدواته، وإن كانت هناك مساحة اشتراك في البعد الاستنهاضي والتنويري للخطاب. وهذه المساحة هي التي دفعت بعض الباحثين العراقيين والعرب إلى تشبيهي بالراحل علي شريعي، وهو تشبيه غير صحيح. وقد ذكرت في إحدى محاضراتي بأن علي شريعتي كان ينطلق من نوايا صادقة ومخلصة في حركته من أجل التغيير، ويستند الى مفاهيم ورمزيات دينية شيعية غالباً، ويدعو الى استحضار الإسلام الأصيل في فكر المسلمين وحياتهم، لكن هذا النوايا والدعوات النظرية لم تكن تنسجم مع مخرجاتها ونتائجها، وبالتالي؛ فهو كمن ينشد الحق ويدعو إليه، لكنه لا يجده ولا يعمل به. وهو ما كان يدركه علي شريعتي نفسه في حياته، ويصرح بأن ما يكتبه ويقوله هي صرخات استنهاضية، وليس بحوثاً منهجية تأصيلية. وقد طرح علي شريعتي أفكاره المتمردة تلك وهو شاب في العشرينات والثلاثينات من عمره، متأثراً بالفكر الاشتراكي وبأفكار “ماسينيون” ومحمد مصدق ومهدي بازرگان، كونه عضواً في حركة حرية ايران الليبرالية بقيادة مهدي بازرگان. وكانت كثيراً من آرائه في الشأن الإسلامي تمثل قراءة اشتراكية للإسلام وتاريخه ورموزه. كما انه مفكر اجتماعي، أي أن اختصاصه هو علم الاجتماع، ولذلك؛ اقتحم قضايا الفقه والعقيدة والتاريخ وهي ليست اختصاصه.

     في حين أنا درست العلوم الإسلامية دراسةً منهجية، كما أن دراستي الأكاديمية عمّقت رؤيتي العلمية لقضايا الفكر السياسي الإسلامي والفكر الإسلامي المعاصر ومناهج التجديد والإصلاح، وليست الرؤية التثويرية اليسارية، أو ما يسمى الاشتراكية الإسلامية التي يتبناها الراحل علي شريعتي، والتي كان يغلفها بمقولة العدالة الاجتماعية. وبالتالي؛ فإن منهجي في الإصلاح والتجديد هو منهج محافظ مستنبط من الثوابت الإسلامية، وليس منهجاً وضعياً من خارج الإسلام.

إلى أي حد لديك الجرأة الفكرية والفلسفية المتجردة لمواجهة من تختلف معهم فكريا؟

    علي المؤمن: أنا أؤمن بالحوار مع المختلف الفكري والديني والمذهبي، بالتي هي أحسن، وأنطلق من المشتركات، وأحب أن أستفيد من الجميع معرفياً، لأن الحكمة ضالة المؤمن.  وأرفض المواجهة العنيفة، حتى المواجهة العنيفة بالكلام، ولم أرفض يوماً الحوار مع ملحد أو شيوعي أو علماني أو سني أو وهابي؛ باستثناء المعادي والمحارب؛ لأن الآخر العنيف والمحارب ينطلق من خلفية إلغاء الآخر وعزله واغتياله معنوياً، وبالتالي؛ ليس من العقلانية الدخول في مهاترات وعنف كلامي وجدل لا طائل منه مع هذا النمط من البشر.

    ويمكنك مراجعة أرشيف مقابلاتي وحضوري المؤتمرات والندوات الدولية والمحلية وزياراتي إلى المساجد والكنائس والمعابد في عشرات الدول، والتي أتحاور فيها مع الشيعي والسني والوهابي والدرزي والكاثوليكي والأرذثوكسي والبروتستانتي والإنجليكاني والبوذي والهندوسي والسيخي واليهودي، وكذلك مع الملحد والشيوعي والعلماني والربوبي، دون أي ممارسة حادة أو عنف كلامي. ولدي صداقات مع كثير من هؤلاء، وتستمر هذه الحوارات والصداقات؛ لطالما كان الآخر يحترم خصوصيتي الفكرية والدينية والمذهبية، ولا يمارس معي سلوكيات الازدراء والعدوان والإلغاء، وهو ما أفعله أيضاً.

كيف تفرق بين الوجود الشيعي كهوية ومذهب ديني ووجود فعلي في المكان بكل ما يحمله من أبعاد مختلفة؟

    علي المؤمن: هذا التفريق بين الجانب العقدي والفكري والفقهي وبين الجانب الاجتماعي والإنساني؛ لا يخص المذهب الشيعي، بل هو واقع عام، يشمل جميع الأديان والمذاهب؛ فهناك الإسلام، الذي هو الثوابت الدينية، أي القرآن والسنة وإجماع المحدثين والفقهاء، وهناك المسلمون أو المجتمع الإسلامي، أي أن الإسلام كدين هو غير المسلمين كأمة ومجتمع وأفراد، وكذلك بالنسبة للمذاهب الإسلامية؛ فهناك التسنن، بوصفه معتقدات وفقه وتشريعات، وهناك أهل السنة، أي أتباع المذاهب السنية، وهم يشكلون كتلاً مجتمعية وإنسانية. وينطبق هذا الواقع على المذهب الشيعي؛ فهناك التشيع وهناك الشيعة؛ فالتشيع هو الجانب العقدي والفقهي والتشريعي، والشيعة هم المجتمع الإنساني الذي ينتسب إلى هذه المعتقدات والتشريعات. وليس بالضروة أن كل من ينتسب إلى الإسلام أو المسيحية أو التشيع أو التسنن هو مؤمن بعقائدها وتشريعاتها؛ فهناك مسيحي مسلم بالاسم والجنسية والوراثة، ولا يؤمن بالعقيدة والشريعة ولا يمارس العبادات، لكنه يقول عنه نفسه إنه مسلم، وإنه يشهد الشهادتين، وهذا يكفي لا عتباره مسلماً من الناحية الشرعية والقانونية.

     وفي الأوساط الشيعية؛ تجد أيضاً شيعي بالاسم، لا يمارس العبادات ولا يلتزم بالتشريعات الدينية، لكنه ينتمي إلى المجتمع الشيعي، وهو جزء من قاعدة النظام الاجتماعي الديني الشيعي. وأنا في الحقيقة اشتغالاتي العلمية البحثية هي على هذا الجانب، أي الاجتماع الشيعي كما هو، بكل تلاوين مفرداته ومظاهره، وهو منهج علم الاجتماع الديني. وإذا قرأت كتابي الاجتماع الديني الشيعي؛ ستجد أنّ موضوع هو المجتمع أو الشيعة كمجموعة إنسانية، وليس التشيع وعقائده وشرعه.

هل يختلف الخطاب الإسلامي عند الشيعة عن غيرهم من باقي المذاهب؟

    علي المؤمن: الخطاب هو نتاج النظام الفكري، وهناك مشتركات عقدية وتشريعية أساسية بين الشيعة والسنة، أو بين الفرق والمذاهب الشيعية والسنية، وهناك اختلافات، بل أن هذه الاختلافات تجدها داخل المذهب الواحد وداخل الفرقة الواحدة؛ فتجد بعض علماء المذاهب السنية يصلون في اختلافاتهم إلى حد تكفير بعضهم الآخر، وهي ظاهرة واسعة وليس حالات محدودة، وهو ما تجده أيضاً عند بعض الشيعة. وفي الوقت تجد بين الشيعة من يشدد على خطابه المذهبي، وتجد الأمر نفسه عند السنة، وكذلك تجد سنياً يتبنى خطاباً إسلامياً عاماً، وشيعياً يتبنى الخطاب نفسه.

    وحتى على مستوى الخطاب الحركي، أي خطاب الحركات الإسلامية السنية والشيعية؛ تجد الاختلاف واضحاً داخل الوسط الحركي السني؛ كما هو الحال بين جماعة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجماعات الوهابية وداخل الجماعات الإسلامية السنية التركية والماليزية والهندية، وهو اختلاف وتخوين يصل أحياناً إلى الإخراج من الدين والأمة، وإلى ممارسة العنف والتصفية والإلغاء والانقلابات العسكرية. وهذه الظاهرة نفسها موجودة في الوسط الحركي الإسلامي الشيعي، ولكن بصورة أقل، بسبب وجود مرجعية دينية تحكم غالباً السلوك الشيعي العام.

    وهناك بالطبع خطاب شيعي عام يمثله الخط الشيعي العام، وهو الخط الذي تمثله المرجعيتان العُلييان في النجف وطهران، ومن يعود إليهما بالتقليد وينتهج نهجمها ويؤمن بقيادتيهما، وهذا الخطاب الشيعي العام هو خطاب وسطي معتدل يدعو إلى وحدة المسلمين وإلى التقارب بين المذاهب الإسلامية وعلمائها وأتباعها، وإلى توحيد الخطاب الإسلامي في مواجهة التحديات الفكرية والواقعية، وإلى رفض التكفير والتفسيق شكلاً ومضموناً، وإلى احترام مقدسات المذاهب الأخرى ورموزها وعدم التعرض لها بأي نحو. ولعل هذا الخطاب الشيعي العام يمثل الأغلبية الساحقة من الشيعة، أي ما يقارب 90 بالمائة من شيعة العالم، وليس هو وليد مرجعية السيد السيستاني والسيد الخامنئي، بل هو الإرث التاريخي للتشيع منذ نشوئه. أما الخطوط الشيعية الخاصة؛ فإنها تنتج خطاباً خاصاً يتعارض أحياناً في كلياته وجزئياته مع الخطاب الشيعي العام، وهو خطاب لا يمثل الشيعة وشبه إجماعهم، بل يمثل أصحابه، كما هو الحال مع الخطوط السنية التكفيرية التي لا تمثل أهل السنة.

وماذا عن الخطاب المتطرف والإلغائي عند بعض الشيعة؟

    علي المؤمن: لقد ذكرت هذا المعنى في معرض إجابتي السابقة، كما ذكرته في كثير من مؤلفاتي وبحوثي ومحاضراتي ولقاءاتي، ودعوت أهلنا في النخب السنية أن لا يأخذوا الشيعة بجريرة أصحاب الخطوط الشيعية الخاصة، في خطابها التكفيري التفسيقي، وكذلك دعوت الشيعة بعدم أخذ السنة بوزر الجماعات السنية التكفيرية الإرهابية؛ فلا القاعدة وداعش تمثلان السنة، ولا المجموعة المعروفة بشيعة لندن تمثل الشيعة؛ إنما الذي يمثل الشيعة هو الخط العام كما ذكرت هنا. ولذلك؛ من العبث وعدم الموضوعية الاحتجاج على الشيعة بهذه المجموعة الشيعية المتطرفة وتلك المجموعة الشيعية التكفيرية، وما تنتجه من خطاب يسيء للشيعة أكثر مما يسيء للسنة ورموزهم.

تقول في إحدى كتاباتك: ((إن النظام الديني الاجتماعي الشيعي ظاهرة مركبة، دينية اجتماعية تاريخية إنسانية)) هذا المفهوم معقد وغير واضح لمن هم خارج هذا النظام. أين يكمن الخلل في عدم وضوح وحقيقة المذهب الشيعي؛ هل هو في الإعلام أو من يمثلون الشيعة في الحضور الإعلامي والأكاديمي؟

    علي المؤمن: سأكون صريحاً معك، وكما ذكرت في معرض إجابتي على سؤالك الأول، إن الخلل يكمن في الجهل بحقائق التشيع وأصوله وفقهه وتاريخه ومساراته وواقعه، وهذا الجهل مرده إلى النخب السنية، بكل عناوينها؛ فهي تصر على الجهل وتتعمد تجهيل قواعدها؛ فترى الأنظمة السنية تمارس التعتيم بأبشع صوره، وترفض نشر كتب الشيعة وإصداراتهم ومجلاتهم، وترفض حضور علماء الشيعة بين الناس في بلدانهم وفي وسائل الإعلام بهدف التوضيح ورفع التهم والشبهات، وتشوّه التاريخ والعقيدة في الكتب الدراسية، وفي وسائل إعلامها. وفي الوقت نفسه يصمت بعض علماء السنة وخطبائهم وكتّابهم حيال توضيح الأخطاء الذين يعلمون بها جيداً، فيما يمارس بعضهم الآخر حملات عنيفة ضد التشيع والشيعة، تصل إلى حد التكفير.

    ولا يقتصر الأمر على الأنظمة والمؤسسة الدينية وجماعات الخطباء والإسلاميين، الحركيين منهم والسلفيين، بل يتعداه إلى المؤسسات الإعلامية العلمانية السنية، كالقنوات الفضائية والإذاعات والمجلات الصحف، وهي ذات خطاب علماني، لكنها طائفية في الوقت نفسه حيال الشيعة والتشيع؛ فتجدها تمارس غزواً إعلامياً شديداً ضد الشيعة، ليس في الأخبار والتقارير والبرامج، بل حتى في الأعمال الدرامية والسينمائية. وبذلك تجد أن الشيعة منذ مئات السنين وحتى الآن يتعرضون إلى أبشع حملات التشويه والتشنيع والشتائم، وهي حملات لا شك تؤثر في عقول الناس الظاهرة والباطنة، وتخلق من الشيعي في أذهانهم كائناً غريباً لا ينتمي إلى العقيدة والشريعة والأوطان.

ألا تجد أن واجب النخب الشيعية إيصال صوتها إلى مثيلتها السنية؟

     علي المؤمن: نعم؛ إنه واجبها، ولكن لا أرى أن النخب الشيعية مقصرة في هذا المجال؛ فهي ناشطة في مجال التأليف والبحث العلمي، وتنشر سنوياً مئات الكتب، للتعريف بعقائد الشيعة وفقههم وتاريخهم وواقعهم ومجتمعاتهم، لكن النخب السنية وعموم أهل السنة لا يقرأون هذه الكتب والمنشورات إلّا نادراً، لأسباب نفسية غالباً، ويفضلون قراءة الشيعة من خلال خصومهم. صحيح أن الخطاب الإسلامي الشيعي يُقابَل بكل أنواع الحجر والعزل والمنع؛ لكن يستطيع أي سني أن يطلع على حقائق الشيعة من كتبهم التي تمثل الخط العام بكل سهولة؛ فهي موجودة بآلاف العناوين في دور النشر وفي المكتبات وعلى مواقع الإنترنيت والمكتبات الإلكترونية، وكذلك في القنوات التلفزيونية الفضائية، التي يزيد عدد الناطقة بالعربية منها عن مائة قناة تلفزيونية شيعية باللغة، وبالتالي؛ لا توجد حجة لدى أي شخص بأنه لا يعرف ولا يفهم ولم يطلع ولم يقرأ.

    وأعود وأقول بأن المعرفة تخلق الحوار الموضوعي، وصولاً إلى التفاهم والتقارب النفسي، والوحدة بين المسلمين على أساس المشتركات، وهي أكثر مما يفرقهم.

المراجعات والقراءات التاريخية بما تفيد في وقتنا الحالي؟

    علي المؤمن: المراجعات التاريخية على نوعين: المراجعات الموضوعية العلمية التي تهدف إلى توضيح الحقائق وكشف عوامل الفُرقة والطأفنة والتعصب المذموم، ومحاولة تكفيكها، وصولاً إلى هدف ترميم الفجوات النفسية والواقعية والفكرية والتشريعية بين المسلمين. وهذه المراجعة مهمة وضرورية، وأنا شخصياً ألجأ إليها، ومما كتبته في هذا المجال كتاب: «المنظومة الطائفية: من الخطاب التأسيسي للمسلمين وحتى الغزو الطائفي المعاصر» في (520) صفحة، بهدف الحفر في بنية المنظومة الطائفية في تاريخ المسلمين وواقعهم، وتفكيكها، وطرح قواعد عقدية وفقهية وواقعية لتعايش المسلمين ووحدتهم.

    أما النوع الثاني؛ فهي القراءة التاريخية السلبية، التي تهدف إلى نبش الوقائع الجدلية السوداء، بما فيها المختلقة وغير الصحيحة وغير الثابتة، واجترارها وتلميعها وإعادة تسويقها بأسلوب فتنوي، بهدف تعميق الشقاق بين المسلمين، وإنتاج مظاهر طائفية بغيضة. وهذا اللون من المراجعات سيء ومرفوض ويعود بالضرر على الجميع، سواء كان من يقف وراءه سنياً أو شيعياً.

كيف ترى تأثير القراءة الطائفية للتاريخ على الواقع الإسلامي؟

    علي المؤمن: القراءة الأيديولوجية المسيسة الطائفية تنتج مظاهر طائفية لا محال، أما المراجعة الموضوعية العلمية فهي تنتج مظاهر مودة وألفة. ولا أقصد هنا أن نقوم بتمييع الحقائق وتزوير التاريخ والعبور على الخلافات العقدية والفقهية، على شاكلة: ((سيدنا معاوية قتل سيدنا حجر))؛ إنما القصد هو البحث التاريخي الموضوعي المنتج والمفيد لواقعنا، والذي يشكل ركائز للاعتبار؛ للحيلولة دون تكرار السيء في تاريخنا؛ ولا أعتقد أن أي مؤرخ، سنياً كان أو شيعياً، سيأتي بجديد بشأن الوقائع الجدلية السوداء في تاريخ المسلمين، بل هو مجرد اجترار لا جدوى منه، ويكفينا ما لدينا من آلاف الكتب التراثية والجديدة في هذا المجال. ومن الأحرى بمفكرينا وباحثينا وعلمائنا البحث في تقويم حاضر الأمة ومستقبلها.

ختاماً..

     جزيل الشكر إلى المفكر العراقي علي المؤمن. وأود هنا التأكيد على أن هذا الحوار، ليس القصد منه تعريف القارئ الليبي والعربي بأطروحات الدكتور علي المؤمن وأفكاره وحسب؛ بل أقصد منها طرح نموذج لمنهجية ملائمة للحوار بين النخب العربية المختلفة دينياً أو مذهبياً أو فكرياً؛ فهي منهجية صريحة واضحة ومباشرة ولا تختبئ وراء تمييع الخلافات وشعارات الوحدة الفضفاضة غير المنتجة، وهو ما يبدو عليها منهجية حادة مهاجمة في ظاهرها، لكنها في جوهرها منهجية منتجة للتقارب الحقيقي بين المختلفين، واحترام الاختلاف والعمل على مساحات الاشتراك، من أجل التعايش والتعاون وفقها، وصولاً إلى النهوض المشترك بواقع الأمة العربية والإسلامية، وهو ما أجده، دون مواربة، في المنهجية النهضوية للدكتور علي المؤمن.