أمّا الدور فقد سكنت، و أمّا الأزواج فقد نكحت، و أمّا الأموال فقد قسمت
نهج البلاغة ، حكمة 31
محمد جواد الدمستاني
لو أُذِن للأموات في الكلام لأخبروا الأحياء أَنَّ خير الزاد التقوى كما ذكر أمير المؤمنين عليه السلام، و التقوى هي وقاية النفس من عصيان أوامر الله ونواهيه وما يمنع رضاه، و حفظ النفس حفظاً تاماً عن الوقوع في المحظورات.
و ممكن تصوّر المشهد هذا حين الرجوع إلى الكوفة و الوقوف على القبور حيث جيش جرّار قدم من معركة طويلة و ارتقى فيها شهداء و جرحى، و قد غاب افراد الجيش عن أهلهم عدة شهور، فوقف بهم على القبور و جعل يخاطبهم.
الكلام وعظ لأفراد الجيش بلسان الأموات بأنّ خير الزاد التقوى لترقيق قلوبهم و إيقاظ الغافلين منهم و تنبيههم لعله يعالج ما طرأ من إعوجاج من بعضهم فيرجعون إلى رشدهم في السمع و الطاعة لأمير المؤمنين عليه السلام.
يسلّم أمير المؤمنين عليه السلام على الموتى بقوله: يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ، وَ الْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ،..، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ.
أو في نص كتاب وقعة صفين عَلَيْكُمُ اَلسَّلاَمُ يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ ..
قوله عليه السلام: «يَا أَهْلَ الدِّيَارِ الْمُوحِشَةِ»، أي القبور المورثة لوحشة الانسان و رهبته، و الوَحشة ضد الأنس.
في الرواية عن الإمام الصادق (ع) في التسليم على أهل القبور «اَلسَّلاَمُ عَلَى أَهْلِ اَلدِّيَارِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُسْلِمِينَ رَحِمَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَ اَلْمُسْتَأْخِرِينَ وَ إِنَّا إِنْ شَاءَ اَللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ». الفقیه،ج1ص178.
«وَ الْمَحَالِّ الْمُقْفِرَةِ» يعني القبور الخالية، أقفر المكان إذا لم يكن به ساكن، «وَ الْقُبُورِ الْمُظْلِمَةِ» أي التي لا نور و لا ضوء فيها.
« يَا أَهْلَ التُّرْبَةِ » أي التراب « يَا أَهْلَ الْغُرْبَةِ » غرباء لا قريب أو نسيب لهم، « يَا أَهْلَ الْوَحْدَةِ » أي وحيدين، فريدين، «يَا أَهْلَ الْوَحْشَةِ» أي لا أنيس لهم، و يُقال أنّه إذا اجتمع الأحياء مع الأحياء زاد أنسُهم، و إذا اجتمع الأحياء عند الأموات زادت وحشتُهم، و المقابر من أوحش الأمكنة للأحياء.
و عن الإمام الصادق (ع) «مَا مِنْ مَوْضِعِ قَبْرٍ إِلاَّ وَ هُوَ يَنْطِقُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَا بَيْتُ اَلتُّرَابِ، أَنَا بَيْتُ اَلْبَلاَءِ، أَنَا بَيْتُ اَلدُّودِ،..» الکافي،ج3ص241.
« أَنْتُمْ لَنَا فَرَطٌ سَابِقٌ » الفَرَط هو الجزء المتقدم من القوم، أي سبقتمونا إلى الآخرة، و في الخبر عن النبي (ص) «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى اَلْحَوْضِ» البحار،ج39ص341، و منه الدعاء حين موت الطفل «اَللَّهُمَّ اِجْعَلْهُ لَنَا فَرَطاً» البحار،ج23ص106.
و في نص تمام نهج البلاغة «أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ وَفَرَطٌ سَابِقٌ».
وقال عليه السلام: «وَ نَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ لَاحِقٌ » وَنَحْنُ عَمّا قَليلٍ نموت و سنلحق بكم و نتبعكم، فأنتم السابقون و نحن اللاحقون.
ثم إن الإمام عليه السلام بدأ بإخبار أهل القبور الأموات بموجز لأهم الإخبار التي تهمهم وهي الدور، و الأزواج، و الأموال، فقال عليه السلام:
« أَمَّا الدُّورُ فَقَدْ سُكِنَتْ » الدور أو البيوت التي كانت لكم سكنها بعدكم أناس آخرون، أقارب أو أباعد.
وفي كتاب صفّين لنصر المنقري (ص142) في ذهاب أمير المؤمنين عليه السلام روى أنّ أحد أصحاب الإمام كان يَنْظُرُ إِلَى آثَارِ كِسْرَى وهُوَ يَتَمَثَّلُ بِقَوْلِ اِبْنِ يَعْفُرَ اَلتَّمِيمِيِّ:
قال عليه السلام: « وَ أَمَّا الْأَزْوَاجُ فَقَدْ نُكِحَتْ» أي تزوجت بعدكم بآخرين، الرجال تزوجوا و النساء تزوجنّ، و هو الغالب بين النّاس أن يتزوجوا بعد رحيل الزوج، و في مكان آخر في نهج البلاغة أيضا «وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ». خطبة 132.
« وَ أَمَّا الْأَمْوَالُ فَقَدْ قُسِمَتْ » أمّا الأموال التي كانت لكم فقد قسمت بعدكم على الورثة، أو غير الورثة، أي الأقارب أو الأباعد.
« هَذَا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا » « هذا » إشارة إلى خبر دورهم و أزواجهم و أموالهم، و ارتباط الإنسان الأكثر بالبيت أو العقار أو المزرعة، و الزوجة أو الزوج في حالة وفاة أحدهم، و الأموال و الثروات، وما قاله (ع) من أخبار الأحياء لهم هو الأهم الأكثر، وعامّ لجميع الناس، وقد يخبرون موتاهم بأمور أخرى، و هذا موجز الأخبار لأهل الدنيا.
فلما انتهى من إخبار الأموات التفت إلى الأحياء و أخبرهم بما سيسمعونه لو تكلم الأموات و أوجزوا، فسأل الأموات عليه السلام:«فَمَا خَبَرُ مَا عِنْدَكُمْ»؟
و في تمام نهج البلاغة «أَمّا خَبَرُ مَا عِنْدَنَا، فَقَدْ وَجَدْنَا مَا عَمِلْنَا، وَرَبِحْنَا مَا قَدَّمْنَا، وَخَسِرْنَا مَا خَلَّفْنَا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى».
و هذا هو الغرض الرئيسي من الكلام وهو وصية الجيش و النّاس بالتقوى و حفظ النفس حفظاً تاماً و صيانتها.
و «أَمَا لَوْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْكَلَامِ» الأذن و الإجازة بالكلام متفرع على سماعهم، فهم سمعوا كلامه عليه السلام و سؤاله و لكن غير مأذون لهم في الكلام، و لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم «أَنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى».
و هذا بحث في أنّ الأموات و أهل العالم البرزخ يسمعون الأحياء و قد ذكرت في المقام أدلة على سماعهم ليس هنا محلها، و روت كتب المسلمين قول رسول الله (ص) في قتلى بدر من المشركين قوله (ص) «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ». مسند أحمد بن حنبل،ج21ص452، البخاري، ج ٢ ص ١٠١
و من أقوال أمير المؤمنين (ع): لما مر بالمقابر ما روي عن أَصْبَغَ بْنِ نُبَاتَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع) فَمَرَّ بِالْمَقَابِرِ فَقَالَ عَلِيٌّ (ع):