اخر الاخبار
دور صلة الرحم في البناء المجتمعي
صلة الرحم.. مفهوم إسلامي أصيل، وركن وثيق في بناء الإسلام لمنظومته الاجتماعية، وصولا للمجتمع المثالي المرجو من ارسال الله سبحانه وتعالى لرسالاته ورسله وانبياءه.
وقد مُنحت هذه الركيزة ـ صلة الرحم ـ في الإسلام، مقاما لائقا بها واهتماما عمليا كبيرا، كونها تؤسس للبنة المجتمع الأولى، واساسه المتين المتمثل بالأسرة.
وبغية الوقوف على أهمية هذه الأخلاقية، لا بد لنا من تفكيك جزئياتها وصولا لكليات كبرى يقصدها الشارع المقدس من تأكيداته عليها.
فالصلة تعني العلقة، وهي مفردة قرينة للصلاة ـ ليس المقصود هنا الصلاة اصطلاحا، إنما الصلاة كمفهوم يصل العبد بربه.. والرحم لغويا هو أسباب القرابة، والاصل فيها هو الرَّحم، المتمثل بالجهاز الأنثوي الخاص بالحمل، باعتباره منبتا للذرية، وقد فسره اخرون على إنه مستل من ذوي الرحم، أي أصحاب القرابة، وهم كل من بينك وبينهم صلة نسبية، سواء انت من جهة الأب او من جهة الأم.
ومراتب صلة الرحم كثيرة، ادناها هي المراتب الثلاث الخاصة بالإرث حسب الفقه الإسلامي، وهي مرتبة الآباء (يشمل الاباء والأمهات) والأبناء (البنين والبنات)، ثم مرتبة الأخوة (اخوة واخوات) ثم ما علا عن الاباء (الأجداد والجدّات)، ثم مرتبة الأعمام (اعمام وعمات) والأخوال (أخوال وخالات)، مع جميع من يتفرع عن ذلك، أبناء وبنات الأعمام، وأبناء وبنات الأخوال، وأبناء الأخوة والأخوات، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية، تنسحب صلة الرحم الى دائرة أوسع ممن يشملهم الإرث، بناء على العرف والعادات والتقاليد، إذ يشمل الأرحام ـ تسامحا ـ كلّ من يقرب للفرد بصلة قرابة من جهة أبيه أو أمه، ولأجيال كاملة، بل وقد ينسحب الأمر عرفا الى كل من صارت للفرد معه وصلة بسبب التواصل وليس القرابة، حيث يؤكد الإمام الصادق عليه السلام ذلك بقوله الشريف: “مودة يوم صلة، ومودة شهر قرابة، ومودة سنة رحم ثابت من قطعها، قطعه الله”.
ومن باب السعة، لم يقيد الإسلام اتباعه بشكلية محددة للحفاظ على صلة ارحامهم، إنما ترك الأمر للعرف الاجتماعي، باعتبار أن ذلك مما يتبدل بتبدل الأزمان والحوادث، فراح يؤطرها بالضرورة ويترك الوسيلة للأيام وتبدلاتها تبعاً للتحوّلات الاجتماعية والإنسانيّة التي قد تتغير من جيل الى جيل.
وعلاقة الفرد بمن هم ضمن دائرة أرحامه علاقة فطرية، يسلم بها علم الاجتماع، فضلا عن كونها تكليفا شرعيا، وهو ما نجده واضحا في التكليف الإلهي لنبي الرحمة محمد صلوات الله عليه وآله يوم بعث نبيا، ((وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217))(الشعراء ـ214 ـ217)، كمنطلق لتبليغ رسالته، على الرغم من كونها رسالة عالمية لا تحدها حدود ولا تقف عند جماعة او عرق محددين.
ومن باب إنزال هذه السمة منزلتها الكبيرة عند الخلق، ندب الله سبحانه وتعالى عباده الى ذلك في عدة مواضع قرآنية، منها على سبيل المثال قوله عز من قال ((النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَىٰ أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا))(الأحزاب ـ6)، وقوله تعالى ((وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ))(الأنفال ـ75).
وقد منحت أخلاقية صلة الرحم شانها الكبير ـ بعد القرآن الكريم ـ في الأحاديث العصموية، كتأكيد على اهميتها وضرورتها، ومن ذلك قوله صلوات الله عليه وآله “صلة الرحم تعمر الديار، وتزيد في الأعمار، وإن كان أهلها غير أخيار”، كما قال عليه الصلاة والسلام “صلة الرحم تزيد في العمر، وتنفي الفقر”، وقوله عليه أفضل الصلاة واتم التسليم: “إنّ القوم ليكونون فجرة، ولا يكونون بررة، فيصلون أرحامهم فتنمى أموالهم، وتطول أعمارهم، فكيف إذا كانوا أبراراً بررة؟!”.
كما أكد صنو النبي الأكرم وخليفته الإمام علي عليه السلام ذلك بقوله: “أيها الناس: إنه لا يستغنى الرجل وإن كان ذا مال عن عترته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم حيطة من ورائه وألمَّهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير من المال يرثه غيره، ألا لا يعدلنَّ أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدّها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيدٍ كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة”.
كما أكد على ذلك أئمة اهل البيت عليهم الصلاة والسلام، ومنهم الإمام الباقر عليه السلام بالقول: “صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتنسئ من الأجل”، وهو قريب مما قاله صادق القول الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: “إنّ صلة الرحم والبر ليهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم، وبرّوا بإخوانكم ولو بحسن السلام وردّ الجواب”، وأبعد من ذلك، فقد حث أئمة أهل البيت على وجود المواصلة مع الأرحام باي ظرف كان، فعن أبي بصير قال: “سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل يصرم (يقطع) ذوي قرابته ممن لا يعرف الحق؟ قال (عليه السلام): لا ينبغي له أن يصرمه (يقطعه…)”.
وعلى الرغم مما تؤكده الأبحاث الاجتماعية على أهمية التواصل مع القارب، وإدامة العلائق معهم، فإن الإسلام كان قد سبق لهذا الندب بالتأكيد على ذلك، خصوصا وإنه مدعاة لإطالة عمر الفرد، فقد قال النبي الأكرم صلوات الله عليه وآله “إن الرجل ليصل رحمه وقد بقي له من العمر ثلاث سنين فيصيرها الله عز وجل ثلاثين سنة، ويقطعها وقد بقي من عمره ثلاثون سنة فيصيّرها الله ثلاث سنين ثمّ تلا ((يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ))”.
ومن باب الإمعان في التأكيد على صلة الرحم، يجعل الإمام الصادق للفرد على ارحامه أكثر من واجب، وذلك بقوله عليه السلام: “حقّ الرحم لا يقطعه شيء وإذا كانوا على أمرك كان لهم حقان بمعنى حقّ الرحم وحقّ الإسلام الجامع بينه وبينهم”.
المصدر : الاسلام .. لماذا