د. فاضل حسن شريف
جاء في كتاب إيضاح المحصول من برهان الأصول للمازري: (حرف “نعم” و”بلى”) وأما حرف “نعم” و”بلى” فإنهما للمجاوبة، وتكسر العين من نعم، وتفتح، وقد قرئ في السبع: “قالوا نعم” بفتح العين وكسرها. لكن “نعم” تكون جوابا في النفي والإثبات، وتصديقا للخبر على ما هو عليه، وأما “بلى” فإنما يجاوب بها في النفي، ويكون معناه حينئذ إيجاب النفي. قال تعالى: “ألست بربكم قالوا بلى” (الأعراف 172) فقوله: “ألست بربكم” بحرف الاستفهام جوزته صورة النفي للربوبية، فلو قالوا جوابا عن هذا: نعم، قال سيبويه لكفروا، لأنهم يصدقون بقولهم: نعم، نفي الربوبية، ولكنهم قالوا: بلى، وهي موضوعة لإيجاب ما نفي، فاقتضت إيجاب الربوببية، وإثباتها.
جاء في موقع الالوكة الشرعية عن الترادف في القرآن الكريم للكاتب سعيد مصطفى دياب: (بَلَى وَنَعَمْ): وَمِنْ تلك الألفاظ التي يظن كثيرٌ من الناسِ أنها من المترادفِ وليست كذلك، بَلَى وَنَعَمْ، فإن بَلَى تأتي جوابًا لاسْتِفْهامٍ مُقْتَرنٍ بنَفْيٍ، كقول القائل لغيره: ألم أحسن إليك؟ فيقول صاحبه: بلى. فيكون إقرارًا بإحسانه، ولو قال: نعم. كان إنكارًا لقوله. ومثالُ ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: “وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى” (الاعراف 172) يروى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ قَالُوا نَعَمْ لَكَفَرُوا) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: “وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقّ” (الاحقاف 34) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: “زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ” (التغابن 7) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: “وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ ” (الاعراف 44) قالَ الرَّاغبُ: بَلَى رَدٌّ للنَّفْي، نَحْو قَوْله تَعَالَى: “وَقَالُوا لن تَمسَّنا النَّار”، الآيَةُ، “بَلَى مِن كسب سَيِّئَة”، وجوابٌ لاسْتِفْهامٍ مُقْتَرنٍ بنَفْيٍ نَحْو: “أَلَسْتُ برَبِّكم قَالُوا بَلَى”، ونَعَم يقالُ فِي الاسْتِفْهامِ نَحْو: “هَل وَجَدْتُم مَا وَعَد رَبّكم حَقّاً قَالُوا نَعَم”، وَلَا يُقالُ هُنَا بَلَى، فَإِذا قيلَ: مَا عنْدِي شيءٌ، فقُلْتُ بَلَى، فَهُوَ رَدُّ لكَلامِه، فَإِذا قُلْت نَعَم فإقْرارٌ منْكَ، انْتَهَى. وقالَ الأَزْهرِيُّ: إنَّما صارَتْ بَلَى تَتَّصِل بالجَحْدِ لأنَّها رجوعٌ عَن الجَحْدِ إِلَى التّحْقِيقِ، فَهُوَ بمنْزِلَةِ بَلْ، وبَلْ سَبِيلُها أَنْ تأْتي بَعْدَ الجَحْدِ كقَوْلِكَ: مَا قامَ أَخُوكَ بَلْ أَبُوكَ، وَإِذا قالَ الرَّجُلُ للرَّجُلِ أَلا تَقومُ؟ فَقَالَ لَهُ: بَلَى، أَرادَ: بَلْ أَقُومُ، فزادُوا الألِفَ على بَلْ ليحسن السُّكوتُ عَلَيْهَا، لأنَّه لَو قالَ بَلْ كانَ يتوقَّعُ كَلاماً بَعْد بَلْ، فَزادُوا الألِفَ ليزولَ عَن المخاطبِ هَذَا التَّوهُّم.
عن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى عن بلى “بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ” “البقرة 81” “بلى” تمسكم وتخلدون فيها “من كسب سيئة” شركاً “وأحاطت به خطيئته” بالإفراد والجمع أي استولت عليه وأحدقت به من كل جانب بأن مات مشركاً، “فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون” روعي فيه معنى من. قوله جل كرمه “بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” “البقرة 112” “بلى” يدخل الجنة غيرهم “من أسلم وجهه لله” أي انقاد لأمره. وخص الوجه لأنه أشرف الأعضاء فغيره أولى “وهو محسن” موحد، “فله أجره عند ربِّه” أي ثواب عمله الجنة، “ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” في الآخرة. قوله عز وعلا “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَـٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” “البقرة 260” “و” اذكر “إذ قال إبراهيم ربَّ أرني كيف تحيي الموتى قال” تعالى له “أولم تؤمن” بقدرتي على الإحياء سأله مع علمه بإيمانه بذلك ليجيبه بما سأل فيعلم السامعون غرضه، “قال بلى” آمنت “ولكن” سألتك “ليطمئن” يسكن “قلبي” بالمعاينة المضمومة إلى الاستدلال، “قال فخذ أربعة من الطير فّصُرْهُنَّ إليك” بكسر الصاد وضمها أملهن إليك وقطعهن واخلط لحمهن وريشهن، “ثم اجعل على كل جبل” من جبال أرضك “منهن جزءاً ثم ادعهن” إليك “يأتينك سعيا” سريعا، “واعلم أن الله عزيز” لا يعجزه شيء “حكيم” في صنعه فأخذ طاووسا ونسرا وغرابا وديكا وفعل بهن ما ذكر وأمسك رءوسهن عنده ودعاهن فتطايرت الأجزاء إلى بعضها حتى تكاملت ثم أقبلت إلى رءوسها.. قوله جل جلاله “بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ” “آل عمران 76” “بلى” عليهم فيهم سبيل “من أوفى بعهده” الذي عاهد الله عليه أو بعهد الله إليه من أداء الأمانة وغيره “واتقى” الله بترك المعاصي وعمل الطاعات، “فإن الله يحب المتقين” فيه وضع الظاهر موضع المضمر أي يحبهم بمعنى يثيبهم. قوله عز وجل “بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ” “آل عمران 125” “بلى” يكفيكم ذلك وفي الأنفال بألف لأنه أمدهم أولا بها ثم صارت ثلاثة ثم صارت خمسة كما قال تعالى “إن تصبروا” على لقاء العدو “وتتقوا” الله في المخالفة “ويأتوكم” أي المشركون “من فورهم” وقتهم، “هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مُسَوَّمينَ” بكسر الواو وفتحها أي معلمين وقد صبروا وأنجز الله وعده بأن قاتلت معهم الملائكة على خيل بلق عليهم عمائم صفر أو بيض أرسلوها بين أكتافهم.
وعن تفسير الميسر: قوله تعالى عن بلى “أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ۚ بَلَىٰ وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ” ﴿يس 81﴾ بلى حرف جواب، بلى: هو قادر على خلق مثلهم. أوليس الذي خلق السموات والأرض وما فيهما بقادر على أن يخلق مثلهم، فيعيدهم كما بدأهم؟ بلى، إنه قادر على ذلك، وهو الخلاق لجميع المخلوقات، العليم بكل ما خلق ويَخْلُقُ، لا يخفى عليه شيء. قوله جلت قدرته “بَلَىٰ قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ” ﴿الزمر 59﴾ ما القول كما تقول، قد جاءتك آياتي الواضحة الدالة على الحق، فكذَّبت بها، واستكبرت عن قَبولها واتباعها، وكنت من الكافرين بالله ورسله. قوله جا جلاله “وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا ۚ قَالُوا بَلَىٰ وَلَـٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ” ﴿الزمر 71﴾ وسيق الذين كفروا بالله ورسله إلى جهنم جماعات، حتى إذا جاؤوها فتح الخزنة الموكَّلون بها أبوابها السبعة، وزجروهم قائلين: كيف تعصون الله وتجحدون أنه الإله الحق وحده؟ ألم يرسل إليكم رسلا منكم يتلون عليكم آيات ربكم، ويحذِّرونكم أهوال هذا اليوم؟ قالوا مقرين بذنبهم: بلى قد جاءت رسل ربنا بالحق، وحذَّرونا هذا اليوم، ولكن وجبت كلمة الله أن عذابه لأهل الكفر به. قوله عز وجل “قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ” ﴿غافر 50﴾ قال خزنة جهنم لهم توبيخًا: هذا الدعاء لا ينفعكم في شيء، أولم تأتكم رسلكم بالحجج الواضحة من الله فكذبتموهم؟ فاعترف الجاحدون بذلك وقالوا: بلى. فتبرأ خزنة جهنم منهم وقالوا: نحن لا ندعو لكم، ولا نشفع فيكم، فادعوا أنتم، ولكن هذا الدعاء لا يغني شيئًا؛ لأنكم كافرون. وما دعاء الكافرين إلا في ضياع لا يُقبل، ولا يُستجاب. قوله سبحانه “أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴿الزخرف 80﴾ أم يظن هؤلاء المشركون بالله أنَّا لا نسمع ما يسرونه في أنفسهم، ويتناجون به بينهم؟ بلى نسمع ونعلم، ورسلنا الملائكة الكرام الحفظة يكتبون عليهم كل ما عملوا.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى عن نعم “وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ” ﴿الأعراف 44﴾ بعد البحث في الآيات السابقة حول مصير أهل الجنّة وأهل النّار، أشار هنا إلى حوار هذين الفريقين في ذلك العالم، ويستفاد من ذلك أنّ أهل الجنّة وأهل النّار يتحادثون بينهم وهم في مواقعهم في الجنّة أو النّار. فيقول أوّلا: “وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا”. فيجيبهم أهل النّار قائلين: نعم وجدنا كل ذلك. عين الحقيقة “قالُوا: نَعَمْ”. ويجب الالتفات إلى أن (نادى) وإن كان فعلا ماضيا، إلّا أنّه هنا يعطي معنى المضارع، ومثل هذه التعابير كثيرة في القرآن الكريم، حيث يذكر الحوادث التي تقع في المستقبل حتما بصيغة الفعل الماضي، وهذا يعدّ نوعا من التأكيد، يعني أنّ المستقبل واضح جدّا، وكأنّه قد حدث في الماضي وتحقق. على أنّ التعبير بـ (نادى) الذي يكون عادة للمسافة البعيدة، يصوّر بعد المسافة المقامية أو المكانية بين هذين الفريقين. وهنا يمكن أن يطرح سؤال وهو: وما فائدة حوار هذين الفريقين مع أنّهما يعلمان بالجواب؟ وجواب هذا السؤال معلوم، لأنّ السؤال ليس دائما للحصول على المزيد من المعلومات، بل قد يتّخذ أحيانا صفة العتاب والتوبيخ والملامة، وهو هنا من هذا القبيل. وهذه هي واحدة من عقوبات العصاة والظالمين الذين عند ما كانوا يتمتعون بلذائذ الدنيا، حيث كانوا يؤذون المؤمنين بالعتابات المرّة، والملامات المزعجة، فلا بدّ ـ في الآخرة ـ أن ينالوا عقابا من جنس عملهم كنتيجة طبيعة لفعلهم، ولهذا الموضوع نظائر في سور القرآن المختلفة، منها ما في آخر سورة المطففين. ثمّ يضيف تعالى بأنّه في هذا الوقت بالذات ينادي مناد بنداء يسمعه الجميع: أن لعنة الله على الظالمين “فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ”.