حينما تداهمك المشاكل من كل حدب وصوب، كيف تتصرف ازاءها ريثما تنقشع مبرراتها، هل تتمنى الموت أم تتنمى الحياة؟! الله تعالى خلق الانسان لكي يحيا حياة طيبة، وما الموت الا انتقال من حال الى حال، والفرق بين المؤمن والكافر ان حال المؤمن في الآخرة أفضل من حاله في الدنيا، والكافر عكسه تماما، لهذا السبب ان المؤمن لا يهاب الموت، لأنه انتقال من الأدنى الى الأفضل، وان الكافر يهاب من الموت، لأنه انتقال من الأفضل الى الأدنى، فالمؤمن لا يتمنى الموت، ولو أتى على حين غرة فانه يستقبله برحابة صدر، كيف يتمنى الموت وهو بطاعته لله تعالى وخدمته للعباد والبلاد واحسانه ومعروفه في الحياة يزداد رصيده من الحسنات؟! والكافر أيضا لا يتمنى الموت، ولكن اذا ما داهمه على حين غرة فانه ينزل عليه كالصاعقة تحرق آماله وتطلعاته وصخبه وجنونه بما كسبت يداه من الاثم والعدوان والشرور والبطلان، لهذا السبب قال الإمام الصادق (عليه السلام) – لرجل يتمنى الموت -: (تمن الحياة لتطيع لا لتعصي، فلأن تعيش فتطيع خير لك من أن تموت فلا تعصي ولا تطيع) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ٢ / ٣ / ٣.
الحياة المفعمة بالعطاء هي الحركة المتواصلة لابتغاء رضا الله تعالى، والابتعاد عن معاصيه، تحصيل الحسنات والاستزادة منها، هجر السيئات والاستنفار منها، السعي الحثيث لحفظ القيم والكرامة والفضيلة وردم موجبات الذل والانكسار والرذيلة، تقديم كل ما من شأنه ان ينشأ دولة عادلة تعطي كل ذي حق حقه، لعل الحركة الجوهرية هي تلك الحياة التي تؤمن للفرد حياة هانئة وابدية سواء تلك التي قبل الموت أو بعده، وحري بالذي يحيا تلك الحياة المثمرة أن يرحّب بالموت اذا ما نزل بساحته، أو اذا اقتضت الحاجة فانه يقدم نفسه قربانا في سوح الجهاد والشهادة لكي يدافع عن تلك القيم السامقة التي بها تطيب حياتنا ونحيا وبدونها تخبث حياتنا ونتردى، وهذا ما حدى بالإمام الكاظم (عليه السلام) أن يضع مقياسا للرجل الذي يتمنى الموت وهو بالنسبة اليه حياة هانئة ابدية، أما ذلك الرجل الموحل بالخطايا والذنوب والاجرام وهو يتمنى الموت وهو بالنسبة اليه هلاك الأبد فقد سأله الامام: (هل بينك وبين الله قرابة يحابيك لها؟ قال: لا، قال: فهل لك حسنات قدمتها تزيد على سيئاتك؟ قال: لا، قال: فأنت إذا تتمنى هلاك الأبد!) كشف الغمة للإربلي: ٣ / ٤٢.
اذا ما تكالبت الدنيا على انسان واصطلمت عليه الدواهي والمحن والبلاء، عادة الذي يتمنى الموت ولا يهابه في تلك الأجواء، هو ذلك المؤمن الذي امتحن الله قلبه بالإيمان؛ لأن الموت بالنسبة اليه انتقالة من سجن الى رحاب الله الواسعة من الجنة والرضوان، أما الكافر وبما كسبت يداه من ظلم وفساد وعدوان؛ فانه يخاف الموت مخافة الذئب من الأسد المفترس، لأنه يعلم ان عدالة السماء بانتظاره لما اقترف من جرائم في الحياة الدنيا، ويبدو من تاريخ اليهود أن هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية، وكانوا يعتقدون أن الجنة خلقت لهم لا لسواهم، وأن نار جهنم لن تمسهم، وأنهم أبناء الله وخاصته، وأنهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن!!.
هذه التصورات الموهومة كانت ولا زالت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة والطغيان وقتل الأطفال والنساء والصبيان، وتبعث فيهم – من جهة أخرى – الغرور والتكبر والاستعلاء وضرب المواثيق الأممية التي تحمي حقوق الانسان عرض الحائط ولا تبالي في ذلك عهد ولا ميثاق ولا استبيان.
وفي هذا السياق أجمع المفسرون على ان القرآن الكريم طرح مسألة تمني الموت على اليهود وقد اجاب هؤلاء القوم جوابا دامغا بقوله: (قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآَخِرَةُ عِندَ اللّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) البقرة: ٩٤، ٩٥.
ألا تحبون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب الحبيب لقاء حبيبه؟! لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا، أن الجنة خالصة لنا دون سائر الناس: أو أن النار لا تمسنا إلا أياما معدودات – إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.
اذا كان كذلك لماذا اذن تفرون من الموت، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدعون وتزعمون؟!
لماذا هذا الالتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية، إن كنتم مؤمنين بالآخرة وبنعيمها حقا؟!
لماذا كل هذا الاجرام بحق الشعوب المضطهدة التي تطالب بكرامتها في العيش الكريم والحياة الهانئة؟!
لماذا كل هذا الرعب والخوف من الموت، لماذا اللجوء الى الملاجئ مذعورين، ولماذا نرى كل تلك الطوابير الطويلة في المطارات هربا من الجحيم، حينما يأتيكم الرد الصاعق من المضطهدين؟! بهذا الشكل فضح القرآن الكريم أكذوبة هؤلاء وبيّن زيف ادعائهم.
هؤلاء يعلمون ما في ملف أعمالهم من وثائق سوداء ومن صحائف إدانة، وثائق القتل والتدمير والتهجير والتنكيل بالشعوب المستضعفة، والله عليم بكل ذلك، ولذلك فهم لا يتمنون الموت، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم المشينة.
هؤلاء أكثر الناس انشدادا بالحياة، هؤلاء أكثر الناس التصاقا بالأرض وحرصهم الشديد على جمع المال والمتاع، وحرصهم في الاسراف في اللهو واللعب والبذخ والعصيان، ولتجدنّهم أحرص الناس على حياة، وأن حرصهم هذا يفوق حرص حتى المشركين بالله تعالى.
وبلغ شغفهم بالدنيا أنه يودّ أحدهم لو يعمر ألف سنة لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفا من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب، ولا يغيّر من مصيره شيئا وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر إذ كل شيء محصى لدى الله تعالى، ولا يعزب عن عمله شيء، والله بصير بما يعملون.
هذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، فالمؤمن يرضى بما قدّر الله له من خير سواء بالحياة أو الموت، والكافر يتشبث بالدنيا لإفراغ شهواته وظلمه وفساده، وما له في الآخرة من نصيب، وعليه فالمؤمن يكون جلدا في البلاء والشدائد، صبورا في المحن والمصائب، يعمل لدنياه كأنه يعيش ابدا ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا، فالدنيا ساعة فيجعلها طاعة، واذا كانت كذلك فالحياة والموت سيان بالنسبة اليه، فبالحياة يزداد من الحسنات، وبالموت يتلقى ربه وهو في اكمل المواصفات وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا يتمنى أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان ولابد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) الترغيب والترهيب للمنذري: ٤ / ٢٥٧ / ٥٤.