د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب أنصار الحسين المؤلف للشيخ محمد مهدي شمس الدين: ومن الناس من يشارك الآخرين في حياته، لا من منطلق ذاته ومصلحته، وإنما من منطلق مصالح الآخرين وهمومهم ومصائرهم، أي أنه يتجاوز ذاته نحو الآخرين، ويجعل من حياته مشروعا عاما يخدم من خلاله الآخرين، على خلاف الصنف الاول، الذي لا تعدو حياته أن تكون مؤسسة خاصة مغلقة، وهذا الإنسان هو ما اصطلحنا على تسميته في بعض أحاديثنا بالإنسان (المكعب). إنه الانسان الذي تشغل حياته مساحة كبيرة أو صغيرة من حياة الآخرين، ولكن لا من منطلق ذاتي ونفعي، وإنما من منطلق غيري وتضحوي يجعل حياته مشاعا، يعود بالنفع والخير على الآخرين، الذين لا يرجو منهم نفعا، ولا جزاء ولا شكورا. إن حياته ذات أبعاد، وأبعادها هي الآخرون. هذا الانسان، هو إنسان صاحب قضية، فحياته ذات بعد معنوي تشكله القضية، وحياته غنية بمقدار ما في قضيته من غنى، ونبيلة بمقدار ما في قضيته من صوابية وصدق، وهو قادر على أن يكون صالحا بمقدار ما يكون منسجما مع قضيته العادلة، ورسالي بمقدار ما يعطي من حياته لهذه القضية، وهو إنسان يمكن أن يكون شهيدا. هذا الصنف من الناس، هم الذين قال الله عز وجل فيهم: “والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” (الحشر 9).
وعن أصناف الناس يقول العلامة الشيخ شمس الدين قدس سره: الصنف الاول، إنسان محدود يبدأ في الرحم وتنتهي حياته الدنيا في القبر، ولا يترك في حياة الناس وراءه أي خير، هذا إذا لم يترك في حياتهم ألوانا من الشر، والصنف الثاني إنسان غير محدود، يبدأ في الرحم، وتنتهي حياته الدنيا في القبر ولكنه يترك في حياة الناس ألوانا من الخير والسعادة، وتبقى حياته نابضة فيهم، وتضحياته سعادة وتقدما في حياتهم، وذكراه قدوة لهم تزيد من أمثاله الذين ينسجون على منواله. إن إمكانية الشهادة لهذا الصنف من الناس، تزيد باطراد بمقدار ما تكون قضيته شاملة وعادلة ومستقبلية و بمقدار ما يعطي من حياته لهذه القضية، وأولئك الذين تكون قضيتهم شاملة للبشرية جمعاء، عادلة ومستقبلية، ويتحدون بها اتحادا كاملا، فيعطونها كل حياتهم ووجودهم ومستقبلهم، هم المؤهلون للشهادة تأهيلا كاملا، إنهم الذين تقل عندهم فرص الموت وتكثر لديهم فرص الشهادة. إن حياتهم تكون في هذه الحالة استشهادا مستمرا، إنهم الشهداء الأحياء الذين ينتظرون قضاء نحبهم في سبيل الله وهذه النوعية من الناس ينطبق عليها قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا” (الأحزاب 23). ومن هنا فلا شهادة بدون قضية تجعل من حياة الانسان مشروعا لخدمة الآخرين، وتجعل حياته عاملا إيجابيا ومباركا في حياتهم.
وعن الموت والشهادة يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين: ومن هنا فثمة بون شاسع، وفرق نوعي أساسي بين الموت وبين الشهادة. الموت نهاية طبيعية لكل حي، ولكن الشهادة ليست نهاية لكل حياة. الموت قدر إلهي ثابت، والشهادة نعمة نادرة ليست مجانية كسائر النعم الالهية. وإنما هي نعمة تقتضي شروطا لابد من تحقيقها، وهي القضية العادلة المستقبلية، والاتحاد بالقضية، وبيع النفس لله من خلال هذه القضية. ولأن الشهادة نعمة غير مجانية فإن الله تعالى هو الذي يختار الشهداء وليست الصدفة هي التي تصنع الشهداء. يقول الله عزوجل في كتابه العزيز: “وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين” (آل عمران 140) فالشهاة اتخاذ واصطفاء واختيار من الله ومن هنا قلنا أنها نعمة غير مجانية. ويؤكد هذا المعنى ما حفلت به السنة الشريفة، وخاصة ما يتعلق منها بالحقل التربوي والتوجيهي من التعبير عن الشهادة بأنها رزق ومن اشتمال كثير من نصوص الادعية التربوية الشريفة على نصوص تتضمن التوجه إلى الله بالدعاء طلبا لرزق الشهادة. إن التضحية العظمى التي جعلت شهداء كربلاء، يتجاوزون حياتهم من أجل الآخرين ونحو الآخرين، الذين كان موقفهم في الغالب موقف الخذلان وفي النادر موقف الاسى السلبي المتفرج، يختلف بالتأكيد عن التضحية العظمى التي جعلت شهداء العهد النبوي يتجاوزون حياتهم نحو الآخرين ومن أجل الآخرين، الذين كان موقفهم موقف المشارك المتعاطف: “ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولاهم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل * وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين” (آل عمران 169-171). إن هذا هو الطريق الوحيد للخروج بالامة مما هي فيه، وهذا هو الشرط التغييري الوحيد الذي يجب أن يتوفر في معظم أفراد الأمة لتستطيع أن تغير ما يحيط بها ويحل فيها من بلاء، بعد أن تغير ما بنفسها من عوامل التخلف والضعف والهزيمة “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد 11). وسيبقى الحسين عليه السلام وأنصاره معلمين كبارا، وروادا عظاما في عملية التغيير التي يمثل النبي وآل بيته الأطهار عليهم السلام روادها في كل عصر ولكل جيل.