د. فاضل حسن شريف
جاء في التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى عن بارئكم “وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” (البقرة 54) كل معنى يسبق إلى الفهم بمجرد سماع اللفظ لا يحتاج إلى تفسير، بل تفسيره وشرحه ضرب من الفضول. وهذه الآية من هذا الباب. “فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ”. القتل ظاهر في إزهاق الروح، ولا سبب موجب لصرفه وتأويله بمخالفة الهوى، وتذليل النفس بالاعتراف بالذنب والخطيئة، أو التشديد والمبالغة في طاعة اللَّه – كما قيل – والمراد بالأنفس هنا بعضها، أي ليقتل بعضكم بعضا، فيتولى البريء منكم الذي لم يرتد عن دينه بعبادة العجل قتل من ارتد عن دينه، تماما كقوله تعالى: “فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ”. أي فليسلَّم بعضكم على بعض، وكقوله: “ولا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ”. أي لا يغتب بعضكم بعضا. وقال الطبرسي في مجمعه من الإمامية والرازي في تفسيره الكبير من السنة قالا: ان اللَّه سبحانه جعل توبتهم بنفس القتل، بحيث لا تتم التوبة، ولا تحصل إلا بقتل النفس، لا انهم يتوبون أولا، ثم يقتلون أنفسهم بعد التوبة. ولهذا الحكم نظائره في الشريعة الاسلامية، حيث اعتبرت القتل حدا وعقوبة على جريمة الارتداد.
عن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى عن جهرة “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ” (البقرة 55) هذا الطلب قد ينم عن جهل بني إسرائيل، لأن إدراك الإِنسان الجاهل لا يتعدّى حواسه. ولذلك يرمي إلى أن يرى الله بعينه. أو قد يحكي هذا الطلب عن ظاهرة لجاج القوم وعنادهم التي يتميزون بها دوماً. على أي حال، طلب بنو إسرائيل من نبيهم بصراحة أن يروا الله جهرة، وجعلوا ذلك شرطاً لإيمانهم. عندئذ شاء الله سبحانه أن يرى هؤلاء ظاهرة من خلقه لا يطيقون رؤيتها، ليفهموا أن عينهم الظاهرة هذه لا تطيق رؤية كثير من مخلوقات الله، فما بالك برؤية الله سبحانه نزلت الصاعقة على الجبل وصحبها برق شديد ورعد مهيب وزلزال مروع، فتركهم، على الأرض صرعى من شدة الخوف “فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ”.
عن تفسير الميسر: قوله تعالى عن المن والسلوى “وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۖ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ” (البقرة 57) الْمَنَّ: الْ اداة تعريف، مَنَّ اسم. وَالسَّلْوَى: وَ حرف عطف، ال اداة تعريف، سَّلْوَى اسم. المنّ: صمغة حلوة تنزل على الشجر. أو شراب حلو. أو عسل. أو خبز مرقَّق. أو الزنجبيل. و قيل: يعني به جميع ما منَّ الله به عليهم. المَنَّ. مادة كالعسل. والسلوى: الطائر المعروف بالسّماني. واذكروا نعمتنا عليكم حين كنتم تتيهون في الأرض، إذ جعلنا السحاب مظللا عليكم من حَرِّ الشمس، وأنزلنا عليكم المنَّ، وهو شيء يشبه الصَّمغ طعمه كالعسل، وأنزلنا عليكم السَّلوى وهو طير يشبه السُّمانَى، وقلنا لكم: كلوا من طيِّبات ما رزقناكم، ولا تخالفوا دينكم، فلم تمتثلوا. وما ظلمونا بكفران النعم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، لأن عاقبة الظلم عائدة عليهم.
جاء في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي: قوله تعالى عن قثائها والمسكنة “وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ۗ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۗ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ” (البقرة 61) لما عدد سبحانه فيما قبل ما أسداه إليهم من النعم و الإحسان ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران و سوء الاختيار لنفوسهم بالعصيان فقال “وإذ قلتم” أي قال أسلافكم من بني إسرائيل “يا موسى لن نصبر على طعام واحد” أي لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد و إنما قال “على طعام واحد” و إن كان طعامهم المن و السلوى و هما شيئان لأنه أراد به أن طعامهم في كل يوم واحد أي يأكلون في اليوم ما كانوا يأكلونه في الأمس كما يقال أن طعام فلان في كل يوم واحد و إن كان يأكل ألوانا إذا حبس نفسه على ألوان من الطعام لا يعدوها إلى غيرها و قيل أنه كان ينزل عليهم المن وحده فملوه فقالوا ذلك فأنزل عليهم السلوى من بعد ذلك و قوله “فادع لنا ربك” أي فاسأل ربك و ادعه لأجلنا ” خرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها و قثائها و فومها وعدسها وبصلها” أي مما تنبته الأرض من البقل و القثاء و مما سماه الله مع ذلك و كان سبب مسألتهم ذلك ما رواه قتادة قال كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام و أنزل عليهم المن و السلوى فملوا ذلك و ذكروا عيشا كان لهم بمصر فسألوا موسى فقال الله “اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم” و تقديره فدعا موسى فاستجبنا له فقلنا لهم اهبطوا مصرا و قيل إنهم قالوا لا نصبر على الغنى بأن يكون جميعنا أغنياء فلا يقدر بعضنا على الاستعانة ببعض فلذلك قالوا يخرج لنا مما تنبت الأرض ليحتاجوا فيه إلى أعوان فيكون الفقير عونا للغني و قوله “قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير” معناه قال لهم موسى و قيل بل قال الله لهم أ تتركون ما اختار الله لكم و تؤثرون ما هو أدون و أردى على ذلك و قيل أنه أراد أ تستبدلون ما تتبذلون في زراعته و صناعته بما أعطاه الله إياكم عفوا من المن و السلوى و قيل المراد تختارون الذي هو أقرب أي أقل قيمة على الذي هو أكثر قيمة و ألذ و اختلف في سؤالهم هذا هل كان معصية فقيل لم يكن معصية لأن الأول كان مباحا فسألوا مباحا آخر و قيل بل كان معصية لأنهم لم يرضوا بما اختاره الله لهم و لذلك ذمهم على ذلك و هو أوجه و قوله “اهبطوا مصرا” اختلف فيه فقال الحسن و الربيع أراد مصر فرعون الذي خرجوا منه و قال أبو مسلم أراد بيت المقدس و روي ذلك عن ابن زيد و قال قتادة و السدي و مجاهد أراد مصرا من الأمصار يعني أن ما تسألونه إنما يكون في الأمصار و لا يكون في المفاوز أي إذا نزلتم مدينة ذات طول و عرض (فإن لكم) فيها “ماسألتم” من نبات الأرض و قد تم الكلام هاهنا ثم استأنف حكم الذين اعتدوا في السبت و من قتل الأنبياء فقال “وضربت عليهم الذلة والمسكنة” أي ألزموا الذلة إلزاما لا يبرح عنهم كما يضرب المسمار على الشيء فيلزمه و قيل المراد بالذلة الجزية لقوله “حتى يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون” عن الحسن و قتادة و قيل هو الكستيج و زي اليهود عن عطا و قوله “والمسكنة” يعني زي الفقر فترى المثري منهم يتباءس مخافة أن يضاعف عليه الجزية و قال قوم هذه الآية تدل على فضل الغنى لأنه ذمهم على الفقر وليس ذلك بالوجه لأن المراد به فقر القلب لأنه قد يكون في اليهود مياسير و لا يوجد يهودي غني النفس و قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الغنى غنى النفس و قال ابن زيد أبدل الله اليهود بالعز ذلا و بالنعمة بؤسا و بالرضا عنهم غضبا جزاء لهم بما كفروا ب آياته و قتلوا أنبياءه و رسله اعتداء و ظلما “وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه” أي رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد وجب عليهم من الله الغضب و حل بهم منه السخط و قال قوم الغضب هو ما حل بهم في الدنيا من البلاء و النقمة بدلا من الرخاء و النعمة و قال آخرون هو ما ينالهم في الآخرة من العقاب على معاصيهم ثم أشار إلى ما تقدم ذكره فقال “ذلك” أي ذلك الغضب و ضرب الذلة و المسكنة حل بهم لأجل “أنهم كانوا يكفرون بآيات الله” أي يجحدون حجج الله و بيناته و قيل أراد ب آيات الله الإنجيل و القرآن و لذلك قال فباءوا بغضب على غضب الأول لكفرهم بعيسى و الإنجيل و الثاني لكفرهم بمحمد و القرآن و قيل آيات الله صفة محمد صلى الله عليه وآله وسلّم و قوله “ويقتلون النبيين بغير الحق” أي بغير جرم كزكريا و يحيى و غيرهما و قوله “بغير الحق” لا يدل على أنه قد يصح أن يقتل النبيون بحق لأن هذا خرج مخرج الصفة لقتلهم و أنه لا يكون إلا ظلما بغير حق كقوله تعالى “وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ” و معناه أن ذلك لا يمكن أن يكون عليه برهان و كقول الشاعر: (على لاحب لا يهتدى بمنارة) ومعناه ليس هناك منار يهتدى به و في أمثاله كثرة و قوله “ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون” ذلك إشارة إلى ما تقدم أيضا بعصيانهم في قتل الأنبياء و عدوهم السبت و قيل بنقضهم العهد و اعتدائهم في قتل الأنبياء و المراد إني فعلت بهم ما فعلت من ذلك بعصيانهم أمري و تجاوزهم حدي إلى ما نهيتهم عنه.
ويستطرد الشيخ الطبرسي في تفسيره الآية البقرة 61 قائلا: سؤال: إن قيل كيف يجوز التخلية بين الكفار و قتل الأنبياء؟ (فالجواب) إنما جاز ذلك لتنال أنبياء الله سبحانه من رفع المنازل والدرجات ما لا ينالونه بغير القتل و ليس ذلك بخذلان لهم كما أن التخلية بين المؤمنين و الأولياء و المطيعين و بين قاتليهم ليست بخذلان لهم و قال الحسن أن الله تعالى لم يأمر نبيا بالقتال فقتل فيه و إنما قتل من الأنبياء من قتل في غير قتال و الصحيح أن النبي إن كان لم يؤد الشرع الذي أمر بتأديته لم يجز أن يمكن الله سبحانه من قتله لأنه لو مكن من ذلك لأدى إلى أن يكون المكلفون غير مزاحي العلة في التكليف وفيما لهم من الألطاف و المصالح فأما إذا أدى الشرع فحينئذ يجوز أن يخلي الله بينه وبين قاتليه و لم يجب عليه المنع من قتله و روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه قال اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة حتى كثر فيهم أولاد السبايا و اختلفوا بعد عيسى بمائتي سنة.