د. فاضل حسن شريف
عن تفسير الميسر: قوله سبحانه عن بنعمت “فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ” ﴿الطور 29﴾ بِنِعْمَتِ: بِ حرف جر، نِعْمَتِ اسم. فذكِّر أيها الرسول مَن أُرسلت إليهم بالقرآن، فما أنت بإنعام الله عليك بالنبوة ورجاحة العقل بكاهن يخبر بالغيب دون علم، ولا مجنون لا يعقل ما يقول كما يَدَّعون. قوله سبحانه “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ” ﴿النحل 72﴾ وَبِنِعْمَتِ: وَ حرف عطف، بِ حرف جر، نِعْمَتِ اسم. والله سبحانه جعل مِن جنسكم أزواجا، لتستريح نفوسكم معهن، وجعل لكم منهن الأبناء ومِن نسلهنَّ الأحفاد، ورزقكم من الأطعمة الطيبة من الثمار والحبوب واللحوم وغير ذلك. أفبالباطل من ألوهية شركائهم يؤمنون، وبنعم الله التي لا تحصى يجحدون، ولا يشكرون له بإفراده جل وعلا بالعبادة؟ قوله جل جلاله “أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” ﴿لقمان 31﴾ بِنِعْمَتِ: بِ حرف جر، نِعْمَتِ اسم. ألم تر أيها المشاهد أن السفن تجري في البحر بأمر الله نعمة منه على خلقه، ليريكم من عبره وحججه عليكم ما تعتبرون به؟ إن في جرْي السفن في البحر لَدلالات لكل صبَّار عن محارم الله، شكور لنعمه.
جاء في موقع قرى: حينما تأتي (نعمت) بالتاء المفتوحة فإنها تدل على النعمة الخاصة التي وهبها الله سبحانه وتعالى للمؤمنين من عباده. كما أنها تدل على النعم المفتوحة التي لا يمكن إحصاء عددها. وأما (نعمة) بالتاء المربوطة أنها تتحدث إما عن نعم الله الظاهرة للعيان وهي النعم العامة للبشر جميعًا أو تتحدث عن أقل شيء يطلق عليه (نعمة) مثل: “وما بكم من نعمة فمن الله” (النحل 53)، أي أن ما بكم من أقل شيء يطلق عليه (نعمة) فهو من الله وليس أي مخلوق بقادر على أن ينعم عليكم بأقل نعمة وطبيعي أن تأتي كلمة (نعمة) في هذا المجال بالتاء المربوطة، لأنها محدودة ومربوطة.
عن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: عن بنعمت: قوله سبحانه “فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ” ﴿الطور 29﴾ تفريع على ما مر من الإخبار المؤكد بوقوع العذاب الإلهي يوم القيامة، وأنه سيغشى المكذبين والمتقون في وقاية منه متلذذون بنعيم الجنة. فالآية في معنى أن يقال: إذا كان هذا حقا فذكر فإنما تذكر وتنذر بالحق ولست كما يرمونك كاهنا أو مجنونا. وتقييد النفي بقوله: “بنعمة ربك” يفيد معنى الامتنان على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم خاصة وليس هذا الامتنان الخاص من جهة مجرد انتفاء الكهانة والجنون فأكثر الناس على هذه الصفة بل من وجهه تلبسه صلى الله عليه وآله وسلّم بالنعمة الخاصة به المانع من عروض هذه الصفات عليه من كهانة أو جنون وغير ذلك. قوله سبحانه “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ” ﴿النحل 72﴾ وفي الآية رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم وهو التوحيد وإثبات النبوة بمعنى التشريع والمعاد يجري ذلك إلى تمام أربع آيات ينهى في أولاها عن ضربهم الأمثال لله سبحانه، ويضرب في الثانية مثلا تبين به وحدانيته تعالى في ربوبيته، وفي الثالثة مثلا يتبين به أمر النبوة والتشريع، ويتعرض في الرابعة لأمر المعاد. قوله جل جلاله “أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” ﴿لقمان 31﴾ الباء في “بنعمة الله” للسببية وذكر النعمة كالتوطئة لآخر الآية وفيه تلويح إلى وجوب شكره على نعمته لأن شكر المنعم واجب. والمعنى: أ لم تر أن الفلك تجري وتسير في البحر بسبب نعمة الله وهي أسباب جريانها من الريح ورطوبة الماء وغير ذلك. واحتمل بعضهم أن الباء للتعدية أو المعية والمراد بالنعمة ما تحمله السفن من الطعام وسائر أمتعة الحياة. وقد تمم الآية بقوله: “إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور” والصبار الشكور أي كثير الصبر عند الضراء وكثير الشكر عند النعماء كناية عن المؤمن على ما قيل.
وعن التفسير الوسيط للدكتور محمد سيد طنطاوي: عن بنعمت: قوله سبحانه “فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ” ﴿الطور 29﴾ والكاهن: هو الإنسان الذي يزعم أنه يخبر عن الأشياء المغيبة، والمجنون: هو الإنسان الذي سلب عقله، فصار لا يعي ما يقول. أى: إذا كان الأمر كما ذكرنا لك قبل ذلك أيها الرسول الكريم فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أوحينا إليك.. فما أنت بسبب إنعام الله عليك بكاهن ولا مجنون كما يزعم أولئك الكافرون. قال الجمل: والباء في قوله بِنِعْمَةِ رَبِّكَ للسببية، وهي متعلقة بالنفي الذي أفادته (ما) أى: انتفى كونك كاهنا أو مجنونا، بسبب إنعام الله عليك بالعقل الراجح، وعلو الهمة، وكرم الفعال، وطهارة الأخلاق، وهم معترفون بذلك لك قبل النبوة. قوله سبحانه “وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ” ﴿النحل 72﴾ والمراد بنعمة الله عموم النعم التي أنعم الله بها عليهم، والتي لا تعد ولا تحصى. وفي تقديم النعمة وتوسيط ضمير الفصل، إشعار بأن كفرهم بالنعم مستمر وإنكارهم لها لا ينقطع، لأنهم (استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله). وإلى هنا تكون الآيات الكريمة قد ذكرت الناس بعجائب خلقهم وبأطوار حياتهم، ويتفاوت أرزاقهم، وببعض نعم الله تعالى عليهم لعلهم عن طريق هذا التذكير يفيئون إلى رشدهم، ويخلصون العبادة لخالقهم سبحانه، ويستعملون نعمه فيما خلقت له.. قوله جل جلاله “أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ” ﴿لقمان 31﴾ أى: ولقد علمت أيضا وشاهدت أيها العاقل حال السفن، وهي تجرى في البحر، بمشيئة الله وقدرته، وبلطفه ورحمته وإحسانه. ليطلعكم على بعض آياته الدالة على باهر قدرته، وسمو حكمته وسابغ نعمته. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي شاهدتموه وانتفعتم به من السفن وغيرها لَآياتٍ واضحات على قدرة الله تعالى ورحمته لعباده “لِكُلِّ صَبَّارٍ” أى: لكل إنسان كثير الصبر شَكُورٍ. أى: كثير الشكر لله تعالى على نعمه ورحمته.
جاء في كتاب الصوم للسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدس سره: أعطينا في كتاب الصلاة بعض الأفكار عن العيد، بمناسبة التعرض لصلاة العيدين. أما هنا، فينبغي النظر إلى العيد من زاويةٍ أخرى. فإنَّ يوم العيد في الحقيقة هو يوم الوصول إلى الهدف، والفرح به إنما يكون لأجل ذلك، وتقديسه وأهميته إنما يكونان لمدى قدسية الهدف وأهميته، والإحتفال به أو قل: ضرورة إظهار الفرح في العيد، إنما هو من أجل ذلك. أولاً: من باب تطبيق قوله تعالى: “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ” (الضحى 11). ولا شكَّ أنَّ الوصول إلى الهدف من أعظم النعم. ثانياً: من باب الشكر على تلك النعمة. فإنَّ الإعتراف بالنعمة والتجاوب معها، شكلٌ من أشكال شكرها بلا إشكال.
من وصية الإمام الكاظم عليه السلام الى هشام بن الحكم: يا هِشَامُ إِنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ عَجَزْتَ عَنْ شُكْرِهَا بِمَنْزِلَةِ سَيِّئَةٍ تُؤَاخَذُ بِهَا وَ قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً كَسَرَتْ قُلُوبَهُمْ خَشْيَتُهُ فَأَسْكَتَتْهُمْ عَنِ الْمَنْطِقِ وَ إِنَّهُمْ لَفُصَحَاءُ عُقَلَاءُ يَسْتَبِقُونَ إِلَى اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الزَّكِيَّةِ لَا يَسْتَكْثِرُونَ لَهُ الْكَثِيرَ وَ لَا يَرْضَوْنَ لَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِالْقَلِيلِ يَرَوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ أَشْرَارٌ وَ إِنَّهُمْ لَأَكْيَاسٌ وَ أَبْرَارٌ. قال الله تعالى “وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ” (الضحى 11)، و”وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ” (النجم 3). قال ابن حمدون في تذكرته: قال موسى بن جعفر عليه السلام: (وجدت علم الناس في أربع: أولها: أن تعرف ربك ومفادها وجوب معرفة الله تعالى التي هي اللطف. وثانيها: أن تعرف ما صنع بك من النعم التي يتعيّن عليك لأجلها الشكر والعبادة. وثالثها: أن تعرف ما أراد منك: فيما أوجبه عليك وندبك إلى فعله لتفعله على الحد الذي أراده منك فتستحق بذلك الثواب. ورابعها: أن تعرف ما يخرجك من دينك، وهي أن تعرف الشيء الذي يخرجك عن طاعة الله فتتجنّبه).
عن عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمّد بن علي عليه السلام قال: (خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة عند منصرفه من النهروان وبلغه أنّ معاوية يسبّه ويعيبه ويقتل أصحابه، فقام خطيباً فحمّد الله وأثنى عليه وصلّى على رسول الله صلى الله عليه وآله وذكر ما أنعم الله على نبيه وعليه، ثمّ قال: لولا آية في كتاب الله ما ذكرت ما أنا ذاكره في مقامي هذا، يقول الله عزّ وجلّ”وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ” (الضحى 11) اللّهمّ لك الحمد على نعمك التي لا تحصى، وفضلك الّذي لا ينسى، يا أيّها النّاس أنّه بلغني ما بلغني وانّي أراني قد أقترب أجلي، وكأنّي بكم وقد جهلتم أمري، وانّي تارك فيكم ما تركه رسول الله: كتاب الله وعترتي، وهي عترة الهادي إلى النّجاة، خاتم الأنبياء وسيّد النجباء والنبيّ المصطفى.