اخر الاخبار

ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك /محمد جواد الدمستاني

روى هذه الحِكمة الشريف الرضي في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين قال  عليه السلام «لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ». حِكمة رقم 422 .

الأصل و الغالب في الإنسان أنه يعيش في بلده و وطنه الأصل، و الذي عادة يكون مسقط رأسه و المكان الذي ترعرع وتربى فيه، و فيه و الداه و أهله و أقاربه و أصحابه، و تشكلت فيه هويته و ارتبط به ارتباطا تاريخيا و معنويا، وفي عاداته، و ثقافته.

و لكن قد يتفق أن تطرأ في حياة الإنسان ظروف فيضيق حاله في وطنه المألوف و بلده الأصل فيضطرّ معها إلى الهجرة إلى بلد آخر، ليبدأ حياة مختلفة عادة في أجوائها و عاداتها و موقعها و تاريخها و ثقافتها.

أو يكون ذلك لرغبة الإنسان في تغيير نمط حياته أو ترتيب أمور معاشه و وضعه الاقتصادي، أو حتى مماته و آخرته في حالات قليله فينتقل من بلده إلى آخر.

 

و قد يعيش الإنسان نوع من الصراع النفسي الداخلي حين الهجرة من وطنه الأصل و بلد أجداده – و خاصة في بدايتها – و يفكر في وضعه و مصيره، وكذا حالة التفاضل بين وطنه و مكان أو أماكن هجرته، و البعد عن الأهل و الوطن الأجواء، و هل قراره بالهجرة مصيب أو خاطئ!.

 

و أمير المؤمنين عليهم السلام في هذه الحِكمة «لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ، خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ»،  يشير إلى أنّه لا تفضيل بين البُلدان نفسها، إنّما التفضيل بصفاتِ البُلدان، و مميزاتها و مزاياها، و مقدار إيجابياتها و سلبياتها.

و التعبير «خَيْرُ الْبِلَادِ مَا حَمَلَكَ»، أي تعيش فيه كإنسان محفوظ الكرامة مكفول الحرية و الدين تؤدي فيه فرائض دينكِ. و «ما حَمَلَكَ» تشمل أيضا حمل مؤونَتك و وجدت فيه معاشَك، فأمكنك الإقامة به، فهذا هو خير البُلدان بالنسبة إليك، وهو يختلف من شخص إلى آخر و ليس هو خير البلدان لكل النّاس.

 

و الحكمة قد تشير إلى عدم التشبث و التمسك القويّ و الزائد على الحدّ بالبلد الأصل إن كان هناك ما هو خير منه، و خير منه ما حملك، لكن كلمة «حملك» هنا واسعة المعنى و قد تكون ضيّقة الوجود في الواقع الخارجي و إن كانت ممكنة.

 

فإذا ما توفرت سبُل الحياة الكريمة من معاش و معاد فإن الغربة تتحول إلى وطن أو شبه وطن، كما قال عليه السلام في حكمة أخرى « الْغِنَى فِي الْغُرْبَةِ وَطَنٌ » نهج البلاغة – حكمة 56، فحينما يتنعم المهاجر بقوة اقتصادية و إمكانيات مالية و هي صفات تجلب الأصدقاء و الرفقاء عادة و توسّع العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية- لأنّ الغنيّ من يحوم و يحلق عليه النّاس و الفقير من يتفرقون عنه و يتبددون – فإنّ حال المهاجر أو المغترب يتغير وهو و إن كان غريبا عن وطنه إلا أنّه يشعر و كأنّه يعيش في وطنه بسبب غِنَاه و رفاه.

أو بمعنى آخر أنّ المهاجر أو المغترب  إذا توفرت له ظروف بسببها يحمله الوطن البديل فإنّه سيتحول إلى أصيل أو شبه أصيل لأنّ لكل شيئ محله، و بالتالي فإنّ أواصر العلاقات و الارتباطات و البيئة و العادات و الأجواء عامة ستتغير إلى شبه روابط البلد و الوطن الأصل، و ستقل معها في نفسه الوحشة و الحنين إلى الوطن الأصل.

و هذا ليس مقياس لكل النّاس لأنّ منهم من يكون حنينه و شوقه يطغى على كل ما يحمله و يعزّزه البلد البديل، و إن كان وطنه الأصل قليل المقوّمات الحياتية و الموارد ظاهرا، كما قال الشاعر:

وَكُنَّا أَلِفْنَاهَا وَلَمْ تَكُ مَأْلَفًا                          وَقَدْ يُؤْلَفُ الشَّيْءُ الَّذِي لَيْسَ بِالْحَسَنْ

كَمَا تُؤْلَفُ الْأَرْضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ بِهَا         هَوَاءٌ وَلَا مَاءٌ وَلَكِنَّهَا وَطَنْ

و حتى إذا كان مضطهدا في بلده فإنّه يشعر بأنّها مقدمة على غيرها و عزيزة:

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة        وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام

هذا الحنين و الشوق و اللهفة إلى الأوطان متفق عليه بين عموم النّاس و كأنّه فطرة طبيعية أو غريزة فيندر أن تجد من يخالف هذا الشعور و يكره وطنه أو يعرض عنه.

و في الخبر أو المقولة «حب الوطن من الإيمان»، إشارة إلى الارتباط القويّ بين الإنسان و وطنه.

 

و يقابله تماما قوله عليه السلام في نفس الحكمة «وَ الْفَقْرُ فِي الْوَطَنِ غُرْبَةٌ» نهج البلاغة – حكمة 56، فإنّ الفقر و سوء الظروف و الاضطهاد في البلد و الوطن الأصل يجعل الإنسان يشعر بالغربة فيه، و قال عليه السلام « وَ الْمُقِلُّ غَرِيبٌ فِي بَلْدَتِهِ» نهج البلاغة-حكمة 3، و هذا شعور ليس عزيزا و ليس قليلا في كثير من المناطق العربية و غيرها التي تفتقد العدالة و يحكم سلاطينها بالجور و الظلم و الطغيان.

 

و لكن الهجرة و الانتقال من الوطن من الأمور الصعبة على النفوس عامة في الحياة، فكأنّما جاء كلامه عليه السلام تسلية للمهاجرين و المغتربين عن الأوطان و يبيّن أنّ خير البلاد ما حمل الإنسان و توفرت فيه سُبُل العيش الكريم في حياته.

 

و على كل حال فليست الهجرة و الخروح من الأوطان و الديار من الأمور التي يطيقها الإنسان، قال تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا» سورة النساء: 66

 

و الانتقال من البلد إلى آخر أو الهجرة مشروعة أساسا، و قد هاجر عدد من الأنبياء عليهم السلام، و هاجر النبي صلى الله عليه و آله إلى المدينة و أقام الدولة الإسلامية من هناك، وعاش الإمام علي عليه السلام في أكثر مدة خلافته في الكوفة، وعاش بعض الأئمة عليهم السلام خارج مدينة جدهم صلى الله عليه و آله.

 

و الهجرة و إن كانت مشروعة ابتداء إلا أنّها قد تكون محرمة إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يقوم بشعائر و أحكام دينه في المهجر أو يعرضه للانحراف، أو البلد البديل لا يحمله و يعيش فيه بإذلال.

 

و قد تكون الهجرة واجبة و عدمها حرام، و لعل هذه العلاقة الوثيقة من حب الوطن و التعلق به، والعلاقة القوية و العميقة بين الإنسان و وطنه، وصعوبة فراق الأحبة والمتعلقين والأبناء والأصدقاء، وفوت المصالح، والخشية في الوطن البديل أو الجديد هي التي جعلت بعض مسلمي مكة يتثاقلون في الهجرة، ونزل قوله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا..» سورة النساء:97، فالهجرة هنا بالنسبة إلى مسلمي مكة واجبة، و قد أخذوا عنوة ليقاتلوا المسلمين في معركة بدر.

 

أُخِذ هذا المعنى «لَيْسَ بَلَدٌ بِأَحَقَّ بِكَ مِنْ بَلَدٍ»  في الشعر العربي، فقريب منه أنشد المتنبيّ – الذي يُذكر تأثره بكلام أمير المؤمنين عليه السلام، و قد ألّف كتاب السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب رحمه الله كتابا باسم «مائة شاهد و شاهد من معاني كلام الإمام علي (ع) في شعر أبي الطيّب المتنبي – و الذي تنقل في عدة بلدان، أنشد:

في سَعَةِ الخافِقَينِ مُضطَرَبٌ   وَفي بِلادٍ مِن أُختِها بَدَلُ

و علىّ بن ٱلْمُقَرَّبِ ٱلْعُيُونِيّ البحرانيّ الإحسائي الذي تنقل أيضا في عدة بلدان، أنشد:

لِي عَن دِيارِ الأَذى وَالهُونِ مُتَّسَعٌ           ما كُلُّ دارٍ مَناخُ الوَيلِ وَالحربِ

 

سيأتي إن شاء الله يوم على هذه الكرة الأرضية لا حدود فيها و لا تأشيرات دخول بين البلدان، و يتنقل فيها النّاس دون جوازات سفر و دون تمييز، و تنقشع كل الحدود الجغرافية بين الدول، و تكون كلها دولة واحدة تحت قيادة واحدة، آمنة سالمة مرفهة منعمة، ذلك حين يظهر ولي الأمر صاحب العصر و الزمان فيملأ الأرض كل الأرض قسطا و عدلا و سلاما و أمنا و أمانا و رفاها.

 

اللهمّ آمنا في أوطاننا و لا تسلط علينا من لا يرحمنا، و ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.

Play Video