د. فاضل حسن شريف
مجلس عزاء حسيني مساء السادس من محرم الجمعة في مسجد الإمام الحسين عليه السلام بمدينة تورنتو الكندية:
بعد تلاوة آيات من الذكر الحكيم من قبل بعض الحضور لمدة ساعة بأشراف السيد عبد السلام الموسوي، فمجلس العزاء للخطيب الشيخ حسن العامري، فترديد قصائد حسينية للسيد حيدر العوادي والزيارة، فصلاة المغرب، ومأدبة العشاء تبرعا من مؤسس المسجد الحاج عطا علي وآخرين وجلسة شاي.
بعد أن نعى الخطيب الشيخ العامري في بداية ونهاية الخطبة ابتدأ الخطيب الشيخ العامري خطبته الارتجالية وكان موضوعها يدور حول (البصيرة في القرآن الكريم وعند العباس عليه السلام) جاء في زيارة العباس بن علي عليهما السلام (أشهد أنك لم تهن ولم تنكل وأنك مضيت على بصيرة من أمرك) البصيرة في اللغة لها معاني كثيرة منها الفطنة، والعلم، واليقين. واصطلاح البصيرة يطلق على رؤية حقائق الأشياء بعين القلب. للجسد عين وللقلب ايضا له عين “فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ” (الحج 46). فكما أن عين الجسد تصيبها الأمراض فان عين القلب كذلك. يقول الشاعر: وفرز النفوس كفرز الصخور * ففيها النفيس وفيها الحجر وبعض الأنام كبعض الشجر * جميل القوام شحيح الثمر وبعض الوعود كبعض الغيوم * قوي الرعود شحيح المطر وكم من كفيف بصير الفؤاد * وكم من فؤاد كفيف البصر وكم من أسير بقلب طليق * وكم من طليق كواه الضجر وكم من شهاب بعالي السماء * بطرفة عين تراه اندثر وما كل وجه مضيء يدور * بعتمة ليل يسمى قمر وخير الكلام قليل الحروف * كثير القطوف بليغ الأثر فقطرة ماء مراراً تدق * على الصخر حتى تشق الصخر ولو لم تهز الرياح الزهور * لما فاح عطر ومات الزهر.
فقد بصر القلب يجعل الانسان لا يرى نور الآخرة، في حين المؤمن يتمتع بنور الآخرة وهو في الدنيا “قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا” (الأنعام 104). فهم القرآن يجعل الانسان بصيرا “يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ” (يونس 57). والقرآن يعطي مفاهيم للبصيرة “مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى” (النجم 11). القلب يرى الحقائق “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا” (آل عمران 173) أي رأوا حقيقة الله تعالى. سُئل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام هل رأيت ربك؟ فقال عليه السلام: (كيف أعبد ما لا أرى؟ قالوا: فكيف رأيته؟ قال: (إن كانت العيون لا تراه بمشاهدة العيان، فإن القلوب تراه بحقائق الإيمان).
القرآن الكريم يعبر بالبصيرة “قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي” (يوسف 108) فان الايمان في القلب أكثر وضوحا من الشمس. ابن السكيت رضوان الله عليه كان عالما أيام المتوكل العباس وقد عاصر الجوادين. كان المتوكل الخليفة العباسي قد ألزمه تأديب أولاده. وقتله المتوكل العباسي وسببه ان المتوكل قال له يوما: أيما أحب ابناي هذان أم الحسن والحسين عليهما السلام؟ فقال ابن السكيت بعد أن أثنى على الحسن والحسين عليهما السلام: والله ان قنبرا خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات. القرآن الكريم عبر عن البصيرة كذلك بمعنى الشاهد “بَلِ الإنسَانُ عَلى نَفسهِ بَصِيرَةٌ” (القيامة 15) أي أن الانسان شاهد على عمله “وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ” (القيامة 2) الإنسان يرى حقيقة الأعمال بنفسه فقد يعمل عملا خلاف فطرته.
العباس عليه السلام صاحب بصيرة ومقاماته تشهد على ذلك. المقام الأول التسليم لله “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” (النساء 65) التسليم يأتي من البصيرة. فقد سلم العباس نفسه للحسين عليهما السلام لأنه كان صاحب الحكم الشرعي في حين بعض بني هاشم لم يفعلوا ذلك وطلبوا من الحسين عليه السلام عدم الذهاب الى العراق (أشهد لك بالتسليم والنصيحة لخلف النبي المرسل). المقام الثاني هو مقام اليقين “كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ” (التكاثر 5-6). المقام الثالث مقام الفناء أي يفني ذاته في سبيل الله عز وجل كما فعل أبو فاضل العباس عندما فنى نفسية فداءا لخليفة الله في الأرض الحسين عليهما السلام (يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني).