اخر الاخبار

مسؤولية الأديب في زمن الاحتضار.

بقلم:علي الراضي الخفاجي

في الماضي كان الكتاب يأخذ معظم وقت الإنسان، ويتربع على صدره في الزاوية التي يختلي فيها، حتى يتحول مافيه إلى رواشح تفيضُ على القلب بالحكمة والمعرفة والنور، وكان الزمن عند بعضهم شيئاُ مقدساً والمكان خلوة صوفية، ولكن في زماننا أصبح المرئي والمسموع يشاركُ القارئ وقته ويقضُّ مضجعه، كما انتهى مجد القصة الطويلة، وتكاد تنتهي الساعات الهنيئة التي كان يطالع فيها القارئ دون أن تفسد خلوته الحوادث أو تقطع سلسلة أفكاره، وهذا ما جعل الأديب ينتقل من عصر(أدب الكتب)إلى(أدب التجربة الحية والواقع المعاش)وبذلك خرج الأدب إلى حركة يتفاعل معها الإنسان، وتتفتح لها البصائر، وأصبحت السمة المطلوبة للكتابة البلاغة والإيجاز والإشارة، على أن لاتطغى هذه على الذوق والغاية، ولاتلغي حاجة الإنسان إلى جوانب الاستمتاع في الأعمال الأدبية.

ولاننكر ما لعصر أدب الكتب من تأثير في أدبنا المعاصر، وإن كانت الحياة الأدبية في ذلك العصر تكاد تكون كتابٌ يصبُّ في كتاب، فقليلٌ من النتاجات عبرت عن تجربة حياتية أو تناولت معالجة اجتماعية، بل قلَّما حافظت على الثوابت، أو ابتعدت عن الترف، ولعلَّ أبرز الأسباب وراء ذلك هو أنَّ القلم يومذاك كان طوع السياسة وإرادة الحاكم ومايغدق به على الكاتب، وكانت بعض كتب الأدب إلى حد ما تشبه كتب التاريخ، ومعروف أنَّ التاريخ ليس شريفاً للغاية، فقد صور لنا انتصارات مزيفة ومناقب للحكام ليست حقيقية.

إنَّ ما يحتاجه الجيل الحاضر من الأديب هو أن يتفاعل مع التجربة الحية والواقعية والصادقة، وأن لايحجب الحقائق أو يعتمد الزيف والزخارف، بل يعي مشكلات العصر ويبحث عن الحلول لها، لذلك ينبغي أن يأخذ الأدب الحي بالثقافة الواسعة والعميقة، وكان الحق مع النخبة التي تخشى من أدباء الجيل الجديد من ضعف الرصيد الثقافي وضياع الهدفية.

ولا أن يكون الأدب مجرد رغبة في الكتابة أو اجترار ألفاظ وموضوعات مستهلكة، إنما هو فنٌّ إلهاميٌّ يعبر عن الواقع وينقده بأسلوب شاعري وشفاف ومؤثر، فإنَّ الإلهام كاشف عن القدرات والملكات الفنية، وهو لايأتي على فراغ، إنما على عقل ثر وملكات نفسية تستشعر ما حولها، فيبرق في نفس الأديب من خلال فكرة أو إحساس، لذا يذكر بعضهم ما يُلهمَهُ من أمور إنْ كانت حسية أو معنوية في شعره وكتابته، أما دور الفن فيأتي للتنظيم والتنسيق وصياغة الفكرة لتكون مستساغة ومقبولة عند المتلقي، وذلك وفق قوانين وأصول تميز فن عن فن، كما تميز أداء عن أداء.

حتى في مجال الشعر فقد تجدُ ناظماً يجيد القوافي والأوزان، فيكون أشبه بمن يقدم لك صخرة غير مُفسَّرة، أو بمن يغرف لك من نهر ولايستطيع أن يهنئك بشرابه، بخلاف الشاعر الذي يصور لك الحالة الإنسانية بأرقِّ صورها.

ومن مشاكل العصر ما يقع من خلط بين مسؤولية الأديب ووظيفة الصحفي، وفي الحقيقة إنَّ المقارنة بينهما تعدُّ جناية على الأدب، فالمعروف عن الأخير أنه يغترف من الحوادث المتغيرة ساعة بساعة، ولايحتاج بالضرورة إلى وحي الكلمة وإلهام المشاعر، أما الأديب فإنه يتفاعل مع واقعه ويغترف من منبع فيضه وعطائه، ولأنه يعيش الإنسانية فلا يقيده الزمن؛ لأنه بإمكاناته الفنية يستطيع ربط الحاضر بالماضي والمستقبل، ويظهر لنا الحياة في عمقها، لذا كان الأدب الحي أكثر استجابة لحاجات الإنسان؛ لأنَّ حياته لاتقف عند حدود الوجود المادي، ومايثير الحزن بروز ظاهرة تقمص شخصية الأديب لبعض من فسح له المجال في العمل الإعلامي دون توفر القدرات الأدبية، وكثيرٌ أصبح يحذو نحو الاستهلاك والاجترار، وفي الواقع إنه احتضارٌ لايرجى منه خير أو عودة إلى حياة الأدب؛ لأنَّ الاغتراف لم يكن من نفس المنابع، والغصص التي يعاني منها الأديب ليس أكيداً يعاني منها غيره.

ونستذكر هنا ماقاله طه حسين في كتابه(المعذبون في الأرض)وهو يصور في روايات قصيرة واقع مصر وماقامت به حكومات العهد الملكي آنذاك في تكميم الأفواه وعزل الأديب عن الناس، كما يصف فيه الأدب ومسؤولية الأديب بكلمات يقول فيها:(والأدبُ أشبهُ شيءٍ بالنهر العظيم القوي الذي يندفع من ينابيعه فيشقَّ مجراه حتى يصل إلى البحر قاهراً ما يلقاه من المصاعب، مقتحماً مايعترضه من العقاب، محتالاً في شقِّ طريقه ألواناً من الحيل تنتهي به كلها إلى غايته، فظلم الظالمين وبطش أصحاب الطغيان وتحكم الرقباء، كلُّ أولئك أضعف من أن يقوم في سبيل الأدب والفن أو يحول بينهما وبين القراء).ص/12.