د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الإمام الصادق عليه السلام للشيخ محمد حسن المظفر: عن مناظرته عليه السلام: مناظرة في صدقة يحدّثنا عنها الصادق نفسه فيقول: إِن من اتّبع هواه واُعجب برأيه كان كرجل سمعتُ غثاء الناس تعظّمه وتصفه، فأحببت لقاءه حيث لا يعرفني، فرأيته قد أحدق به كثير من غثاء العامّة، فما زال يراوغهم حتّى فارقهم ولم يقر فتبعته، فلم يلبث أن مرَّ بخبّاز فتغفّله وأخذ من دكّانه رغيفين مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعله معاملة، ثمّ أقول: وما حاجته إِذن إلى المسارقة، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرَّ بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمّانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثم قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول: وما حاجته إِذن إِلى المسارقة، ثمّ لم أزل أتبعه حتّى مرَّ بمريض فوضع الرغيفين والرمّانتين بين يديه. ثمّ سألته عن فعله فقال: لعلّك جعفر بن محمّد، قلت: بلى، فقال لي: وما ينفعك شرف أصلك مع جهلك؟ فقلت: وما الذي جهلت منه؟ قال: قول اللّه عزّ وجل “من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى إِلا مثلها” (الانعام 16) وإِني لمّا سرقت الرغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت الرّمانتين كانت سيّئتين، فهذه أربع سيّئات فلما تصدَّقت بكلّ واحدة منها كان لي أربعين حسنة، فانتقص من أربعين حسنة أربع سيّئات وبقي لي ستّ وثلاثون حسنة، فقلت: ثكلتك أمّك أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت اللّه تعالى يقول “إِنما يتقبّل اللّه من المتّقين” (المائدة 27) إِنك لمّا سرقت رغيفين كانت سيّئتين، ولمّا سرقت رمّانتين كانت أيضاً سيّئتين، ولمّا دفعتها إلى غير صاحبها بغير أمر صاحبها كنت إِنما أضفت أربع سيّئات إلى أربع سيّئات، ولم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيّئات، فجعل يلاحظني فانصرفت وتركته. قال الصادق عليه السلام: بمثل هذا التأويل القبيح المستكره يَضلّون ويُضلّون. قول: وما أكثر أمثال هذا المتأوّل ولا غرابة بعد أن أعرضوا عن المنهل واستقوا من السراب. وهذه شذرات من مناظرات الصادق عليه السلام ومحاججاته مع مَن تنكّب عن سبيل الهدى، وحاد عن سنن الحقّ، وهي قطرة من غيث، جئنا بها نموذجاً من تلك الحياة العلميّة في الحجج والأدلّة.
وعن سيرته وأخلاقه يقول الشيخ محمد حسين المظفر قدس سره في كتابه: كان الصادق عليه السلام يعطي العطاء الجزيل، العطاء الذي لا يخاف صاحبه الفقر، وقد سبق في الأخلاق بعض هباته، كما سيأتي الوفر من صِلاته. وقد أعطى مرَّة فقيراً أربعمائة درهم فأخذهما وذهب شاكراً، فقال لعبده: ارجعه، فقال: يا سيّدي سُئلت فأعطيت فما ذا بعد العطاء؟ فقال له: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: خير الصدقة ما أبقت غنى وإِنّا لم نغنك، فخذ هذا الخاتم فقد أعطيت فيه عشرة آلاف درهم فإذا احتجت فبعه بهذه القيمة. أحسب أن الصادق عليه السلام إِنّما زاده للشكر، والشكر داعية المزيد يقول تعالى: “ولئن شكرتم لأزيدنكم” (ابراهيم 7) ولقد زاد سائلاً من ثلاث حبّات عنب إلى كفّين إلى نحو من عشرين درهماً إلى قميص، وما ذاك إِلا لأن السائل قنع في الأولى وحمد اللّه تعالى وما كفَّ عن عطائه إِلا بعد أن كفّ عن الحمد ودعا لصادق عليه السلام. ودخل عليه أشجع السلمي فوجده عليلاً فجلس وسأل عن علّة مزاجه، فقال الصادق له: تَعَدّ عن العلّة واذكر ما جئت له، فقال: ألبسك اللّه منه عافية * في نومك المعتري وفي أرقك يخرج من جسمك السقام كما * أخرج ذلّ السؤال من عنقك فقال: يا غلام أيّ شيء معك، قال: أربعمائة، قال: أعطها لأشجع. وكان لا يترك صِلاته حتّى لقاطعيه منهم، وحتّى ساعة الاحتضار، فإنه حين دنا أجله وكان في سكرات الموت أمر بإجراء العطاء، وأمر للحسن بن عليّ الأفطس بسبعين ديناراً فقيل له: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ليقتلك؟ فقال عليه السّلام: وَيحَكم أما تقرأون: “والذين يَصِلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب” (الرعد 21). إِن اللّه خلق الجنّة فطيَّبها وطيَّب ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم. هذه نفحات من هباته السرّيّة، وصِلاته الخفيّة، التي تمثّل لك الرحمة والرأفة.
عن کتاب الإمام الصادق عليه السلام للشيخ محمد حسن المظفر: كراماته إِن اللّه تعالى أراد بخلقه لخلقه أن يعرفوه، ومن معرفته أن يعبدوه “وما خلقتُ الجنّ والإنس إِلا ليعبدون” (الذاريات 56) وكانت مخلوقاته آية وجوده، وجمال الصنع، واتصال التدبير دلالة وحدانيّته، وجعل من أنفسهم مرشداً إلى ذلك كلّه، وهو العقل. غير أن العقل لا يهتدي بنفسه إلى كيفيّات عبادته، وخصوصيّات طاعته، لأن ذلك لا يعلم إِلا من قِبله تعالى، ومن ثم وجب عليه تعالى حين أراد منهم عبادته أن يرسل إليهم من يدلّهم على ما أراد، ويعرّفهم ما أوجب. ولا يصحّ للعقل أن يصدّق دعوى كلّ من يدَّعي النبوّة من دون بيّنة ومُعجز، فكان على الأنبياء أن يأتوا بالبرهان على تلك الدعوى، ولا نعرف أن المدَّعي نبيّ مُرسَل إِذا لم تكن لديه حُجَّة بالغة، بل شأن أكثر الناس الجحود والإنكار مع الآيات والدلالات، فكيف إِذا لم تكن آية أو دَلالة، فإن لم تكن لتلك الدعوى حُجَّة كانت الحُجَّة على رفضها قائمة بل هي تخصم نفسها بنفسها. كان جعفر بن هارون الزيّات يطوف بالكعبة وأبو عبد اللّه عليه السلام في الطواف، فنظر إليه الزيّات وحدّثته نفسه فقال: هذا حجّة اللّه، وهذا الذي لا يقبل اللّه شيئاً إِلا بمعرفته، فبينا هو في هذا التفكير إِذ جاءه الصادق من خلفه فضرب بيده على منكبه ثمّ قال: “أبشراً واحداً منّا نتبعه إِنّا إِذن لفي ضلال وسعر” (القمر 24) ثمّ جازه. ودخل عليه خالد بن نجيح الجواز وعنده ناس فقنّع رأسه وجلس ناحية وقال في نفسه: ويحَكم ما أغفلكم عند مَن تتكلّمون، عند ربّ العالمين، فناداه الصادق عليه السلام: ويحَك يا خالد إِني واللّه عبد مخلوق ولي ربّ أعبده، إِن لم أعبده واللّه عذبني بالنار، فقال خالد: لا واللّه لا أقول فيك أبداً إِلا قولك في نفسك. وهذا قليل من كثير ممّا روته الكتب الجليلة من الكرامات والمناقب لأبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام، ولا غرابة لو ذكرت له الكتب أضعاف ما استطردناه بعد أن أوضحنا في صدر البحث أمر الكرامة.