اخر الاخبار
آخر الحلول أشدها قسوة «آخر الدواء الكي» / محمد جواد الدمستاني

آخر الحلول أشدها قسوة
«آخر الدواء الكي»
محمد جواد الدمستاني
حين تستنفد كل الحلول تأتي نوبة الحل الأصعب و «آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ»[1]، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.
ورد هذا في باب الخطب من كلام له عليه السلام أوله «يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ»[2]، و آخره «وَ سَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ، وَ إِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ»[3]، و قد كنى عليه السلام بالكيّ عن الحرب و القتال.
و في أحداث حرب الجمل قال عليه السلام فيما قال «و نحن نرجو الصلح إن أجابوا إليه و تموا، و إلا فإنّ آخر الدواء الكي»[4].
و الكيّ هو إحراق الجلد في موضع أو مواضع معينة بجسم حارق للتداوي، و تستخدم فيه حديدة محماة أو غيرها، و هو وسيلة طبية قديمة تُستخدم لحرق جزء من الجسد لإزالته أو غلقه و ينتج عنه إتلاف بعض الأنسجة، و كان يُعتبر آخر وسيلة يلجأ إليها الأطباء بعد فشل الأدوية و الأعشاب، و كانت تلك التقنية من التقنيات المنتشرة في إيقاف نزيف الجروح و بتر الأعضاء، قبل معرفة المضادات الحيوية و العلاجات الحالية، و هو يُستخدم هذه العصور كذلك في إيقاف النزيف و في العمليات الجراحية.
و «آخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ»، مثل يضرب في آخر ما يعالج و يُداوى به الأمر بعد اليأس من العلاجات و الأدوية السابقة، أي تأتي نوبته بعد أن تُستنفذ كل الأدوية السابقة دون نتيجة مثبتة، فيكون آخرها هو الكيّ، و لعله أصعبها و أشدها قسوة.
و هو المعنى المطابقي أو الظاهري من الكلام أمّا المعنى العام فهو بيان أنّ طريقة علاج و حل المشاكل أو المعضلات أو الصعوبات تتعدد و فيها الحلول الليّنة و السهلة و لكن إذا تم استنفاذها و فشلها جميعا يُلجأ إلى طريقة العلاج و الحل الأصعب و التي قد يكون شديدا و قاسيا و لكنه ضروري حيث لا ينفع غيره فيتم الاستعانة به لإيجاد الحل.
و العلاجات من الأمراض متنوعة من طبي و نفسي و طبيعي، و من علاج بالأدوية و الجراحات أو بتنظيم الغذاء و الحمية، فإذا فشلت أو عجزت عن تحقيق الشفاء يُضطر إلى الكيّ.
أما العلاجات الأولية أو الأدوية الأولية قبل الكيّ أو الحلول السياسية الأولية قبل الحرب و القتال فهي متعددة و منها الحوار و المفاوضات و المذاكرات، و الاتفاقيات، تبادل الآراء للوصول إلى تسويات، و النصيحة و الأمر المعرووف و النهي عن المنكر، الترغيب و التحبيب، و الترهيب و التخويف، و التذكير و الإنذار، و غيرها من طرق العلاج، أو الحوار فإذا لم تنجح كلها فالحرب و القتال سيكون آخر الحلول، فالكيّ هنا بمعنى الحل الأصعب و القرارات الصعبة و أقساها و أشدها الحرب.
وهذا مبدأ يجب أن يكون عاما، و هو تقديم الحلول السلمية على الحرب و القتال، و إن شاء الله يأتي مفصلا في بحث أولوية الحل السلمي و الحوار السياسي عند أمير المؤمنين (ع)، كما ذكرناه في كتاب الاستراتيجية العسكرية عند الإمام علي (ع).
و الدواء عادة به مرارة و تناوله ليس سائغا أو محببا و لكن لابد منه لشفاء الجسم من المرض أو سرعة شفاءه، و إلا سيطول ألمه و وجعه، و كذلك الدواء بالكَيّ مؤلم و موجع و يُستخدم سابقا دون تخذير أو بوسائل تخذير خفيفة فهو غير مرغوب و لكن لابد من تحمّله و روي عنه عليه السلام قوله «مَنْ لَمْ يَحْتَمِلْ مَرَارَةَ الدَّوَاءِ دَامَ أَلَمُهُ»[5].
و كمثال للحكمة و تطبيق نهضات الأمم على حكامها فإنّ آخر العلاجات ضد الطغاة و المستكبرين هو الثورة عليهم و هذا ما تفعله الشعوب في تعاملها معهم، حيث يقوم الطغاة طول التاريخ باضطهاد الشعوب، و يقتلون كثيرا من النّاس و يسجنونهم و يعذبونهم، و يسرقون حقوقهم و ينهبون أموالهم، و يصادرون أراضيهم، و يخربون مزارعهم أو يستحوذون عليها، و ينتهكون الأعراض، و يخدعون الشعوب، و يمزقونها اجتماعيا، و يبثون الفتن، و يحرضون فئات و جماعات النّاس على بعضها، و لا يقبلون حلولا سلمية مفيدة للشعب و لهم، فلا يبقى أمام الشعوب إلا القتال فتنطلق الثورات أمام الظالمين و تزيلهم و هو آخر الدواء و هو الكيّ.
و كذلك قد يضطر الحاكم لاتخاذ قرارات صعبة و مريرة و صارمة كحلول أخيرة لبعض الأزمات أو المعضلات بعد استنفاد كل الحلول، و هذا الحل يتناسب مع تلك المعضلة أوالأزمة أو الصعوبة، و ينبغي أن يكون في خدمة الشعب، و أن يكون للصلاح لا للانتقام أو الاستغلال.
و الكيّ كعلاج أو غيره من الأدوية و العلاجات له شروطه و مناسباته و لا تستعمل كل الأدوية لكل الأمراض و قد يتحول الدواء إلى داء، و في وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الإمام الحسن (ع) التي كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين قوله (ع): «رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً، وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ»[6].
و يُستفاد من الحكمة أنّ الحلول تبدأ بالتدريج و يُقدّم أسهلها و أبسطها و أقلها تكلفة و أهمها فائدة، و لا يُقدّم أصعبها و أشقها دون استنفاد ما هو أسهل و أنضج و أنفع، و أن تكون في وقتها المناسب دون تأخير كبير تفقد معها فائدتها، و في العلاج بالكيّ ألا يكون أول العلاجات فيصبح نوع من الاستهتار و الظلم، و لا يكون متأخرا عن وقته فيفقد فائدته و ينتهي وقته لتفاقم المرض حيث لا ينفع بعده علاج كيّ أو أشد منه.
و العلاج بالكيّ من طب العرب كما في رواية الإمام الباقر (ع): «طب العرب في ثلاثة : شَرْطَةِ الحِجام، و الحُقْنَة، و آخر الدواء الكي»[7].
و في رواية عن الإمام الصادق (ع) خمسة «طِبُّ اَلْعَرَبِ خَمْسَةٌ: شَرْطَةُ اَلْحَجَّامِ، وَ اَلْحُقْنَةُ، وَ اَلسُّعُوطُ، وَ اَلْقَيْءُ، وَ اَلْحَمَّامُ، وَ آخِرُ اَلدَّوَاءِ اَلْكَيُّ»[8].
و في رواية عن الباقر (ع) سبعة: طِبُّ اَلْعَرَبِ فِي سَبْعَةٍ: شَرْطَةِ اَلْحِجَامَةِ، وَ اَلْحُقْنَةِ، وَ اَلْحَمَّامِ، وَ اَلسُّعُوطِ، وَ اَلْقَيْءِ، وَ شَرْبَةِ عَسَلٍ، وَ آخِرُ اَلدَّوَاءِ اَلْكَيُّ، وَ رُبَّمَا يُزَادُ فِيهِ اَلنُّورَة ُ[9].
و كان يوجد -في المنطقة التي نشأت فيها- طفل صغير فمرض و ضعف بدنه و قلّت حركته حتى خافت عليه أمه و النسوة و ظنّوا أنّه فارق الحياة، و نذرت أمه رحمها الله برحمته الواسعة أن تخدم في مأتم الحسين (عليه السلام) إذا شفي ابنها، و رأته امرأة كبيرة فقالت إنّ الحياة لا زالت فيه و عليكم بعلاجه بالكيّ، فتم كيّه في رأسه في موضعين فوق الراس و خلفه، ثم شفي هذا الطفل و عاش و الحمد لله، و أوفت بنذرها خادمة الحسين (ع).
[1] – نهج البلاغة، خطبة 168
[2] – المصدر السابق
[3] – المصدر السابق
[4] – الفتنة ووقعة الجمل، سيف بن عمر الضبي الأسدي، ص ١٥٠، تاريخ الطبري، ج ٣، محمد بن جرير الطبري، ص ٥٠٩
[5] – غرر الحكم ودرر الكلم، عبد الواحد الآمدى التميمي، ص ٦٦٨، عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص ٤٣١
[6] – نهج البلاغة، وصية 31
[7] – طب الأئمة (ع)، عبد الله و حسين بن سابور الزيات (ابني بسطام النيسابوري)، ص٤، وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج٢٥، ص ٢٢٦
[8] – طب الأئمة ( ع )، عبد الله وحسين بن سابور الزيات ( ابني بسطام النيسابوري )، ص ٥٥
[9] – طب الأئمة (ع)، عبد الله وحسين بن سابور الزيات ( ابني بسطام النيسابوري )، ص ٤
Play Video