آيات قرآنية في كتاب الشعائر الحسينية للشيخ السند (ح 3)
د. فاضل حسن شريف
جاء في کتاب الشعائر الحسينية بين الأصالة والتجديد للشيخ محمد السند: القرطبيّ في تفسيره: كلّ شي لله تعالى فيه أمرٌ أشعَر به وأعلم يقال له شعاره، أو شعائر. وقال: والشّعار: العلامة، وأشعرتُ أعلمتُ الشعيرة العلامة، وشعائر الله أعلام دينه. نتيجة المطاف تحصّل من مجموع كلمات اللغويّين والمفسّرين أنّ موارد استعمال هذه المادّة وهذه اللفظة في موارد الإعلام الحسّيّ وهي جنبة إعلاميّة كما يظهر من أدلّة اللسان الثاني للأدلة القرآنيّة الواردة بغير لفظة الشعائر، وهي تركّز على جانب الإعلام الدينيّ، أو نشر الدين وبثّ نور الله سبحانه وعدم إطفائه هذه التعابير كلّها عبارة عن المراد من الآيات. وهناك جنبة أخرى في الشعائر، وهي جنبة الإعلاء – العلوّ – وهذه موجودة في لسان الأدلّة أيضاً بيد أنّها غير موجودة في ماهيّة الشعائر وإنّما هي موجودة في ماهيّة المتعلّق الّذي تعلّق بالشعائر.”ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شعَائِرَ اللهِ” (الحج 32) التعظيم هو العلوّ والرفعة والسموّ “لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ” (المائدة 2) أي لا تبتذلوها، ولا تستهينوا بها فإنّ هذا اللسان الأوّل الّذي ورد فيه لفظة الشعائر في الموضوع ركّز على جنبة الإعلام (على ضوء ما استخلصناه من أنّ معنى الشعيرة والشعائر عند اللغويين هو الإعلام الحسّيّ وليس هو الإعلام الفكريّ المحض الّذي يكون من وراء الستار) فالإعلام الفكري لا يسمّى شعائر بل الشعائر: هي العلامة الحسّيّة الموضوعة الّتي تشير وتُنبىء عن معنى دينيّ له نسبةٌ ما إلى الله عزّ وجلّ وإلى الدين. هذه جنبة الإعلام الموجودة في اللسان الأوّل من الآيات والجَنبة الثانية الّتي تظهر من خلال لسان الدليل الثاني، وهي جنبة الإعلاء “وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا” (التوبة 40) “وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً” (النساء 141) وما شابه ذلك. ويمكن القول أنّ كلتا الجنبتَين، حاصلتان في اللسان الأوّل ; غاية الأمر أنّ جنبة الإعلام والنشر والبثّ ظاهرة في موضوع الدليل وهو الشعائر وجنبة. الإعلاء والتعظيم وعدم الاستهانة. مطويّة في متعلّق الدليل وهو التعظيم “ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ” (الحج 30) “ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شعَائِرَ اللهِ” (الحج 32) “لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ” (المائدة 2). إذا خُلّينا وهذا المعنى اللغويّ فالمعنى عامّ ; كما ذكر القرطبي أيضاً تبعاً لبعض اللغويّين: كلّ أمر أعلَمَ بالله عزّ وجل أو أعلَم بمعنىً من المعاني المنتسِبة إلى الله عزّ وجل فهو شعار، وشعائر. فمن حيث الوضع اللغويّ، والماهيّة اللغويّة فإنّ الشعائر والشعار والشَعارة هو كلّ ما له إعلام حسّيّ بمعنى من المعاني الدينيّة، وله إضافة ما بالله عزّ وجلّ، وبدينه وبأمره وبإرادته وبأحكامه وبمراضيه. الفرق بين النُسك والشعائر فإذن الشعار ليس هو النُسك من حيث هو نُسك قد سُمّيت النُسك مشاعر لأنّ فيها جنبة إعلام نُسك الحجّ تسمّى مشاعر بتطبيق المعنى اللغويّ عليها، من جهة أنّ الحجّ يمثّل مؤتمراً ومَجمَعاً ومحلاّ لالتقاء وتقارب الأهداف المشتركة والغايات الموحّدة لهم.
وعن شعائر الله يقول الشيخ السند في كتابه:لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية “لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ” (المائدة 2). وعموم آية: “ذلِك وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ” (الحج 32) وقلنا أنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه اللغويّ الّذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجيّ من جهة خارجيّة فما يتّفق عليه العُرف بحيث يُصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يُصبح شعيرةً وشَعاراً. أنّ كلّ عنوان أُخذ في دليل – كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة – إذا أُبقي على معناه اللغويّ ; وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً بل وجودٌ طارىءٌ اعتباريّ في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم. مثلا: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة: “أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ” (البقرة 275) ليس معناه: أنّ البيع الّذي هو بيعٌ عند الشارع قد أحلّه الله، لأن ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الّذي عند الشارع هو حلالٌ من أساسه بل المقصود مِن: “أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ” (البقرة 275) وكذلك: “أَوْفُوا بِالعُقُودِ” (المائدة 1) المراد أنّ البيع والعقود الّتي تكون متداولة في أفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ – أنا الشارع – الوفاء بها وقد أحللتها لكم. فإذن قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغويّ عند العقلاء والعُرف. وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد – كما بينّا في الطلاق – حيث يقيّدها بوجود خاصّ فحينئذ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغويّ، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكوينيّ أو اعتباريّ.
وعن وجودات الأشياء يقول الشيخ محمد السند: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين: ( ا ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة. ( ب ) وبعض الوجودات وجودات إعتباريّة. وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها إعتباريّ كالبيع والإجارة، والهبة والوصيّة والطَلاق والنِكاح وما شابه ذلك كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء.”أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ” (البقرة 275) “أَوْفُوا بِالْعُقُودِ” (المائدة 1) وغيرها من العناوين، فآية: “أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ” (البقرة 275) لسانٌ شرعيّ وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحِلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع. ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني. فكيفيّة وجوده عند العُرف والعقلاء تكون معتبرة فما يصدق عليه وما يسمّى وما يُطلق عليه «بيع» في عُرف العقلاء جُعِل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّية ذلك البيع وإلاّ فإنّ هذا الدليل “أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ” (البقرة 275) ليس المقصود منه البيع الشرعيّ، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعيّ، لما كان هناك معنىً لحلّيّته لأنّه سوف يكون تحصيلا للحاصل. البيع الشرعيّ إذا كان شرعيّاً فهو حلالٌ بذاته فكيف يرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة. فلسان الأدلّة الشرعيّة والّتي وردت فيها عناوين معينة إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء. حينئذ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات: “يا أيّها الذين آمَنوا لا تُحِلّوا شعائرَ الله” (المائدة 2) أو: “ذلك ومَن يُعظِّم شعائرَ الله” (الحج 32) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أضيفت إلى الله عزّ وجل أو أضيفت إلى الدين الإسلاميّ، أو أضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك. والعَلامة – كما ذكرنا – ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طاريء زائد على هذه الأمور، كاللّون الّذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء ; فيكون طارئاً على العبادة أو المنسك أو الحكم المعين. فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحكم أو في تلك العبادة أو ذلك المنسك تتمثّل بالشعيرة والشعائر. وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسسة والوزارة – مثلا – فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلا وإنما هي علامةٌ عليها. فالنتيجة أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدَين: صعيد المعنى اللغويّ، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج. فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكوينيّ أو الطبعيّ بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجلّ: “وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِن شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ” (الحج 36) يعني باتّخاذ وضعيّ واعتباريّ أصبحت علامة ونبراساً للدين. هذه الشعائر في مناسك الحجّ، جُعلت بالوضع والاعتبار علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.