اخر الاخبار

الإبلاغ الرقمي عن المخالفات: تأثير المحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي على بدء الملاحقات الجنائية.

علي سالم عزيز
مع التوسع الكبير في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد هذه المنصات مجرد أدوات للتواصل أو التعبير عن الرأي، بل أصبحت في كثير من الأحيان منصات للإبلاغ عن الجرائم المشتبه بها، بل ووسيلة غير رسمية لتعبئة الرأي العام، وفي بعض الحالات، لتشجيع السلطات القضائية على اتخاذ إجراءات جنائية. يُجبر هذا الواقع الناشئ القانون الجنائي على إعادة النظر في أدوات الإثبات التقليدية، ومفاهيم الإبلاغ، والإجراءات الرسمية لبدء الملاحقة القضائية. ويثير تساؤلات حقيقية حول القيمة القانونية للمحتوى الرقمي المنشور، وحدود مسؤوليته، وكيفية التحقق من مصداقيته.
في النظم القانونية التقليدية، يتم الإبلاغ عن الجريمة من خلال قنوات رسمية: مركز الشرطة، أو المحامي، أو المدعي العام، أو سلطات التحقيق. أما في البيئة الرقمية، فيتخذ الإبلاغ شكلاً مختلفًا تمامًا. فقد يحتوي مقطع فيديو، أو منشور على فيسبوك، أو تغريدة على X على معلومات دقيقة حول جريمة محددة، أو حتى أدلة بصرية توثق الحدث. وهكذا، يتحول الناشر من مجرد شاهد إلى مُبلّغ رقمي غير رسمي، واضعًا نفسه – عن قصد أو عن غير قصد – في قلب الإجراءات الجنائية.
من الناحية القانونية، يُطرح السؤال: هل يُمكن اعتبار منشور على فيسبوك بلاغًا يُؤدي إلى ملاحقة جنائية؟ الإجابة ليست بسيطة، إذ تختلف القوانين من بلد إلى آخر. مع ذلك، فإن الاتجاه السائد في التشريعات الحديثة هو اعتبار المحتوى الرقمي مصدرًا مشروعًا للمعلومات الجنائية، خاصةً إذا كان يتضمن مؤشرات خطيرة على ارتكاب جريمة. وبالفعل، بدأت مؤخرًا بعض المحاكمات بناءً على محتوى منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، أعقبه تحقيق رسمي وفتح قضية جنائية. ومع ذلك، تُثير هذه الممارسة تحديات بالغة الحساسية تتعلق بدقة المعلومات، وأصالة المحتوى، وإمكانية التلاعب الرقمي، واحترام الخصوصية الفردية.
من منظور الأدلة، لا يُمكن اعتبار المواد المنشورة رقميًا دليلًا جنائيًا إلا إذا خضعت لعملية توثيق وفحص فني تضمن عدم تزويرها أو اقتطاعها أو تغييرها. كما يشترط القانون في كثير من الأحيان الحصول عليها من مصادر مشروعة دون انتهاك الخصوصية أو انتهاك حقوق الملكية الرقمية. لذلك، تحتاج هيئات التحقيق إلى أدوات تقنية متطورة ومحققين رقميين ذوي مهارات عالية، قادرين على التمييز بين المحتوى الحقيقي والمُلفّق، ومدركين لخصوصيات النشر الإلكتروني وأثره القانوني.
من ناحية أخرى، لا يخلو الإبلاغ الرقمي من مخاطر قانونية على المُبلّغ نفسه. فقد تتضمن بعض التقارير المنشورة تشهيرًا أو قذفًا أو معلومات كاذبة أو انتهاكًا لخصوصية الآخرين، مما يُعرّض الناشر للمسؤولية الجنائية. وهذا يضع القانون في مأزق بين تشجيع الإبلاغ عن الجرائم وحماية الأفراد من التقارير الكيدية أو العامة، التي قد تُسبب ضررًا أكبر من الجريمة نفسها. ومن هنا تأتي أهمية وضع تشريعات خاصة بالإعلام الرقمي تُحدد حقوق وواجبات المُبلّغ، وتُميّز بين حرية التعبير والإبلاغ عن الجريمة، وتُوفّر الحماية القانونية لمن يُبلّغ عن جريمة حقيقية بحسن نية.
في هذا السياق، يُعدّ الإبلاغ الرقمي سمة من سمات العدالة الحديثة، حيث يُصبح المواطن العادي عضوًا فاعلًا في منظومة الأمن، ولكن بشرط ألا يُصبح بديلًا عن السلطات القضائية المختصة. قد يؤدي النشر العشوائي أو غير المهني للجرائم إلى تضليل العدالة، أو تعريض سير التحقيقات للخطر، أو حتى الإضرار بحقوق المتهمين، كافتراض البراءة أو الحماية من التشهير.
إن الدور المتزايد للمحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي في تحريك الدعاوى الجنائية يتطلب من جهات إنفاذ القانون الجنائي التعامل مع هذا المحتوى ليس كحالة طارئة تقنية، بل كمسألة قانونية تتطلب تنظيمًا دقيقًا يضمن فعالية المعلومات ويمنع إساءة استخدامها. قد يكون الإبلاغ الرقمي أداة فعالة لمكافحة الجريمة، ولكنه قد يصبح أيضًا مصدرًا للفوضى إذا لم يخضع لرقابة مشددة. لذلك، فإن الجمع الذكي بين حرية التعبير والمسؤولية القانونية، بالإضافة إلى التكنولوجيا والإجراءات القضائية، هو الطريق الأمثل لتحقيق عدالة جنائية حديثة تتسم بالعدالة والمهنية.