*حين يتحول الصوت إلى ساحة معركة*

يشكل المنبر الحسيني في الفكر الشيعي مؤسسة فريدة لا نظير لها في قدرتها على التشكيل العقائدي والثقافي والسياسي والاجتماعي. إنه يتجاوز في تأثيره وسائل التواصل الحديثة والفضائيات والمؤسسات الثقافية مجتمعة. فالشيعة، على اختلاف طبقاتهم، يستمدون عقيدتهم وفهمهم للتاريخ ومواقفهم من الحاضر والمستقبل من خلال هذا المنبر الذي يرتبط ارتباطاً عضوياً بثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، مما يمنحه طاقة استثنائية تلامس العاطفة والعقل والضمير في آنٍ واحد.

لكن هذا المنبر العظيم يواجه اليوم معركة شرسة على هويته، فهو بين تيارين:

تيار يسعى لتفعيله كسلاح وعي في معارك الأمة،

وتيار آخر يسعى لتجريده من محتواه الرسالي، وحصره في دائرة البكاء المجرد والحياد الميت.

أولاً: التهديد المزدوج الذي يحاصر المنبر

يواجه المنبر الحسيني اليوم تهديداً مزدوجاً يهدف إلى إفراغه من جوهره الثوري:

1. *التهديد الخارجي*: أجندة السلطات الحاكمة

تسعى الحكومات الرسمية، خاصة في الأنظمة الاستبدادية، إلى السيطرة على المنبر الحسيني وتحويله إلى بوق للسلطة، تماماً كما فُعل بمنابر أهل السنة، حيث جُيّرت خطب الجمعة لمصالح الحكام، وقُمعت الأصوات المعارِضة من داخل المؤسسة الدينية. الهدف هو تحويل المنبر من منصة ثورة إلى أداة تطويع.

2. *التهديد الداخلي*: دعاة الانعزال و التجريد والتحييد

ينبع الخطر الآخر من داخل بعض الأوساط الدينية الشيعية التي تحاول عزل المنبر الحسيني عن الشأن العام، بحجج أبرزها أنه مخصص فقط لذكر مصائب أهل البيت (عليهم السلام)، وأنه لا يجوز الخروج عما يسمونه “نية الواقف”، مستدلين بذلك بفقه الوقف. هذا التيار، سواء بوعي أو غفلة، يخدم في النهاية أجندة السلطات في تحييد أخطر منبر للوعي والمقاومة.

ثانياً: تفنيد ذريعة “فقه الوقف” وحيادية المنبر

تُعد حجة “*نية الواقف*” من أبرز الذرائع المطروحة لعزل المنبر عن قضايا الأمة، لكنها باطلة من عدة وجوه:

فقهياً: معظم صيغ الوقف لم تُحصر بالمديح والرثاء، بل جاءت بصيغ عامة مثل “إحياء أمر أهل البيت” أو “خدمة شعائرهم”، وهو ما يشمل توعية الناس، وفضح الظلم، والدعوة إلى الإصلاح، أي جوهر نهضة الإمام الحسين (عليه السلام).

روائياً: قال الإمام الصادق (عليه السلام):

*”أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا”*

(الكافي، ج2، ص200)

والإحياء هنا لا يعني مجرد البكاء، بل تحويل الحزن إلى موقف، والدمعة إلى بصيرة.

سيرياً: سيرة الأئمة الأطهار مليئة بالمواقف السياسية والاجتماعية. من خطب الإمام علي (ع) في التحذير من الظلم والانحراف، إلى ثورة الحسين (ع)، إلى خطب الإمام زين العابدين (ع) في مجلس يزيد، إلى صمود الإمام الكاظم (ع) في وجه الطغيان. هل من المعقول أن نحييهم بالبكاء ونعزلهم عن المعارك التي خاضوها بأنفسهم؟

عقلائياً: الأمة اليوم تواجه طغاة وفاسدين وتطبيعاً واستكباراً وغزواً ثقافياً، فهل من العقل أن نُفرّغ المنبر من محتواه التوعوي بحجة “الوقف”؟ لقد قال سيد الشهداء (ع): *”إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”*

فكيف يُعقل أن يُفرغ منبره من هذا الإصلاح ويُحبس في متحف الدموع؟

ثالثاً: الجذور التاريخية لمحاولة تحييد المنبر

محاولة فصل المنبر عن السياسة ليست جديدة، بل تعود إلى العهد الأموي حين حوّل الخلفاء منابر الجمعة إلى أدوات طاعة عمياء، ومنعوا ذكر فضائل أهل البيت، وشوّهوا سيرة الحسين وثورته. هذا النهج استمر في العهدين العباسي والعثماني، ثم في كثير من الأنظمة الحديثة، وتسرب إلى بعض الأوساط الشيعية التقليدية، التي اختزلت المنبر في الرثاء، وأفرغته من روحه.

رابعاً: أعلامٌ أعادوا للمنبر رسالته الثورية

في وجه التحييد، نهضت شخصيات دينية وفكرية شيعية أعادت للمنبر الحسيني رسالته الثورية، وربطت بين الدمعة والبصيرة:

الإمام الخميني (قده): جعل من عاشوراء وقوداً للثورة الإسلامية، وقال: *”كل ما لدينا هو من عاشوراء.”*

الإمام الخامنئي (دام ظله): شدد على أن البكاء على الحسين لا ينفصل عن الجهاد، وأن المجالس ينبغي أن تُصنع فيها البصيرة لا الغفلة.

السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر (قده): استخدم منبره لمواجهة دكتاتورية صدام، ورفَض الانعزال حتى استشهاده.

الشهيد مرتضى مطهري (قده): حذّر من تحريف واقعة كربلاء، ودعا في الملحمة الحسينية إلى إحياء أهداف الثورة لا مظاهرها فقط.

السيد موسى الصدر: حوّل المنبر إلى أداة نهوض للطائفة الشيعية في لبنان، ومنصة مقاومة ضد الاحتلال.

السيد حسن نصر الله: ربط كربلاء بالمقاومة، وجعل خطاباته امتداداً واعياً للمنبر الحسيني التعبوي.

المرحوم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي أسس مدرسة منبرية فكرية ثقافية توعوية

خامساً: المنبر الحسيني وصناعة الهوية الشيعية

لم يكن المنبر يوماً أداة خطابية فحسب، بل كان أحد أعمدة بناء الوعي الجمعي للطائفة الشيعية، وصناعة هويتها الثقافية والسياسية والمذهبية. وقد مثّل الحسين (ع) محور هذه الهوية، ليس بوصفه مأساة، بل بوصفه مشروع مقاومة. ومن هنا، فإن أي محاولة لتحييد المنبر أو “تحييده عن السياسة”، هي في حقيقتها محاولة لنسف هوية كاملة، وقطع الجذور عن قيم الكرامة والحرية والعدل التي قامت عليها هذه الأمة.

سادساً: مسؤولية المنبر في مواجهة قضايا الأمة

الحسين (عليه السلام) ليس ذكرى تاريخية، بل هو قضية حيّة، وهو مشروع إصلاحي متجدد. والمنبر، بوصفه صوته في كل زمان، لا يجوز له أن يصمت عن:

فلسطين والقدس و العدوان على اليمن و لبنان و الجمهورية الإسلامية و قضايا الأمة الإسلامية المعاصرة.

التطبيع مع العدو الصهيوني

الفساد السياسي والمالي

الانحلال الأخلاقي والحروب الناعمة

التمييز الطائفي والطبقية والبطالة والفقر

الاستبداد والقمع وسحق الكرامات و نهب الثروات وتغيب العدالة الاجتماعية

كيف يكون الحسين ثائراً على يزيد، ويكون منبره صامتاً عن يزيديّي هذا العصر؟

إن المنبر الذي يصمت عن الظلم، خائن لصرخة

“*هيهات منا الذلة*”

خياران أمامنا.. منبر الحسين أو منبر السلطان

المنبر الحسيني أمانةٌ في أعناقنا، وهو ساحة مواجهة لا منصة حياد. فإما أن يكون منبراً حسينياً حقيقياً، يعبّر عن آلام الأمة، ويزرع الوعي، ويحرض على الظلم، ويبني مشروع الإصلاح.

وإما أن يتحول إلى منبر مأجور أو مخذول، لا يمت للحسين (ع) ولا لثورته بصلة.

*فالحسين نهضة و ثورة مشروعُ إصلاح*

*إن المنبر الذي لا يُعبّر عن وجع الأمة، لا يُشبه الحسين… بل يُشبه يزيد و ينسجم مع توجه الحكومات اللاشرعية و الاستكبار العالمي والصهيونية ومشروع الديانة الابراهيمية*