اخر الاخبار

حول كتاب «المنظومة الطائفية: من الآيدلوجيات التأسيسية للمسلمين وحتى الغزو الطائفي المعاصر» / د. علي المؤمن

حول كتاب «المنظومة الطائفية: من الآيدلوجيات التأسيسية للمسلمين وحتى الغزو الطائفي المعاصر»

د. علي المؤمن

    لعلّ حديثاً صريحاً وبحثاً حفرياً في موضوع الطائفية ومساراتها التاريخية وحضورها في الواقع الإسلامي؛ سيكونان، دون شك، مثيرين لجدل جديد ـ قديم، ولحساسيات قائمة، حتى قد يتصور بعضهم أنّ طرح مثل هكذا موضوع يشكّل ـ بحد ذاته ـ إثارة للمشاكل الطائفية، وقد يتصور بعض آخر أنّه المقصود حصراً بالسلبيات التي ينتج عنها الحفر في مسارات الخلاف والصراع بين التيارات العقيدية والمذهبية والسياسية في الواقع الإسلامي.

     في حين أنّ حقيقة الأهداف التي يعمل هذا الحديث العلمي أو البحث المنهجي على الوصول إليها، تتعارض مع هذه التصورات التي تنظر إلى الجهد العلمي الموضوعي بمنظار سلبي، وتحسبه على الأعمال الكتابية الطائفية الفتنوية السطحية؛ والحال أنّ دراسة مسارات الأحداث الانشقاقية والطائفية السياسية التي رافقت حياة المسلمين منذ عصر صدر الإسلام وحتى الآن، بعمق وموضوعية، والكشف عن حقيقة عمل المنظومة الطائفية ونشوئها وعناصرها البشرية وممارساتها؛ تعد خطوة تأسيسية في طريق الحوار والتفاهم والتقارب بين المسلمين. وهنا یتلخص الهدف من هذا الكتاب؛ فهو ليس مجرد حفر في الجذور والواقع، بل هو مدخل لوعي حقائق الإشكالية الطائفية المزمنة في الواقع الإسلامي، وإمكانية العمل على تفكيكها، وصولاً إلى المساهمة في خلق واقع جديد، يتمثل في تعايش المسلمين وتعاونهم وتشاركهم، واتحادهم في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، على مستوى البلد الواحد أو مجموع العالم الإسلامي.

    لقد اعتمدتُ المنهج الحفري الوصفي التحليلي في قراءة المنظومة الطائفية، وجذورها ومساراتها التاريخية، وحضورها في الواقع الإسلامي، وصولاً إلى استنتاج رؤيتي. ومقتضى استخدام هذا المنهج؛ الابتعاد عن الخطاب التسطيحي، وتجنب العبور على الحقائق في الوصف والتحليل والاستنتاج والمعالجة؛ لأنّ ذلك سيشكل عائقاً أمام تحقيق هدف الكتاب؛ إذ آمل أن يكون هذا الكتاب مساهمة جادة تصب في إطار وحدة وعي المسلمين وتعايشهم، ويتجاوز الدعوات العامة والأساليب الخطابية التحريضية في موضوع الوحدة الإسلامية، وأحسبها محاولة علمية في طريق الحوار والتقارب والتفاهم العقدي والسياسي بين المسلمين، عبر دعم البنى العلمية لمشروع تعايش المسلمين وتعاونهم ووحدتهم.

    يقع الكتاب في (482) صفحة، ويلتئم في عشرة فصول، يحمل الأول عنوان: حضور المنظومة الطائفية في الواقع الإسلامي، وهو بمثابة مدخل نظري، يكشف عن زوايا النظر إلى موضوع الطائفية، وتسطيح حقائقها، وفي مقدمتها مفهوم الأُمّة والأُمم المسلمة، وأهم الأسباب الموضوعية لتفاقم الإشكاليات الطائفية، وأهمها الإشكالية المعرفية بين السنة والشيعة، وتحريف التاريخ والعبور علية، والمآلات الواقعية للموروث الروائي، وتدويل الطائفية، وازدواجية المعايير وخاصة معايير الطائفيين.

    وبدءاً من الفصل الثاني: التأسيس للمنظومة الطائفية في الواقع الإسلامي، اتجه الكتاب نحو دراسة المسارات التاريخية للموضوع الطائفي؛ إذ درس الانقسامات الأُولى في الواقع الإسلامي، ولا سيّما مفصل السقيفة، ثم مفصلية الدور الأُموي في التأسيس للمنظومة الطائفية. كما أكّد على أهمية حركة الوضع في السنة النبوية كمتلازمة للطائفية، ثم ظهور الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية، كالشيعة والأشاعرة والمعتزلة والسلفية، ومذاهب الشيعة ومذاهب السنة ومذاهب الخوارج، واستعرض مجالات الخلاف والاتفاق بين هذه الفرق والمذاهب، وبيّن الفرق بين التشيع والتسنن والنصب، وختم الفصل بالحديث عن مظاهر التلاحم بين أئمة الفرق والمذاهب، وخاصة مواقف الإمام أبو حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي من الإمام الصادق.

    وكرّس الفصل الثالث: إسهامات العرب والفرس في تأسيس المذاهب وانتشارها، البحث في دور العرب والفرس وجهودهم في تأسيس المذاهب الشيعية والسنية وانتشارها، وفي تدوين كتب الحديث والسيرة والتاريخ والتفسير والفقه، والعوامل التي أدت إلى نشوء الحساسية تجاه الفرس بعد تحولهم إلى التشيع، ثم تحول الصراعات الفكرية والفقهية بين المسلمين إلى منطلقات لحروب التكفير والاقتتال الميداني.

    وحمل الفصل الرابع عنوان: قهر السلطة والتعزيز السلبي للطوائف؛ إذ ركّز على دراسة دور السياسة والسلطة السياسية في تأسيس العقائد والمذاهب والطوائف وحمايتها أو إقصائها، وخاصة ما لعبته العقيدة الأُموية الإقصائية التي مثلت في وقتها المنظومة الطائفية التأسيسية، ثم دور السلطة العباسية، وكذلك الدول الشيعية، وتمثّل أغلبها شكل الدولة السلطانية، وتوصيف الصراع العثماني ـ الصفوي في هذا المضمار، وختم الفصل باستعراض سيرة الحكام الأكثر طائفية في تاريخ المسلمين.

    ويصل الفصل الخامس إلى التاريخ المعاصر، ويبحث تحت عنوان: استنفار المنظومة الطائفية، إرث المذهبية وجغرافيا المذاهب، وإرث الطائفية والتآمر الاستعماري الخارجي، وهو الإرث الذي وجدته إيران الخميني في مواجهتها، والذي بدأ بعملية الاستهداف الطائفي لها عشية تأسيس الجمهورية الإسلامية، بسبب مفصلية هذا الحدث في تاريخ المسلمين؛ الأمر الذي أدى إلى إعادة المنظومة الطائفية لهيكلة نفسها ومؤسساتها وعناصرها وميزانياتها، ودخول العامل الخارجي دخولاً مباشراً لدعم المنظومة الطائفية، والتي استثمرت العوامل الداخلية لغزو إيران الجديدة طائفياً، وتحول الغزو إلى صراع مسلح في جغرافيا السنة، كان يقوده الشيوعيون والقوميون السنة غالباً، والذين استهدفوا علماء السنة المعتدلين قبل المسؤولين الشيعة.

    واستكمالاً للفصل الخامس؛ درس الفصل السادس، الذي حمل عنوان: التدافع الإيراني ـ الطائفي المهمة الصعبة، موقف الإمام الخميني من المسألة الطائفية، وأساليبه الفكرية والروحية والسياسية في معالجتها، وكيفية تعامل دولته مع القضايا المذهبية في الدستور، وخاصة مادة المذهب الرسمي (الشيعي الاثنا عشري) للدولة، وكذلك قوانين الأحوال الشخصية والتعليم الديني لأهل السنة.

    وكشف الفصل السابع: موقع دولة البعث العراقي في المنظومة الطائفية، النقاب عن الأنظمة التي تشكل امتداداً معاصراً للعقيدة الأُموية الطائفية السياسية؛ فأشار إلى أنّ الدولة السعودية بعقيدتها الوهابية، تمثل العقيدة الأُموية في بعدها الثيوقراطي والديني اليميني، بينما كانت الدولة البعثية تمثل العقيدة الأُموية في بعدها القومي الطائفي اليساري. ثم يركز الفصل على تأسيس الدولة العراقية على ركيزة الطائفية القومية، مع الحفاظ على الإرث العثماني المذهبي الطائفي، ويكشف عن الأدلة التي تؤكد تمثُّل نظام البعث جوهر الدولة العراقية الحديثة في عقيدتها العنصرية الطائفية، ويستعرض الممارسات الطائفية المتفردة لنظام البعث ورموزه السياسية والدينية، واستمرار الوعي البعثي السياسي الطائفي بعد سقوط دولة البعث، وظهوره في بقاياه وحواضنه، وفي الجماعات التكفيرية الطائفية التي أعادت تشكيل العقيدة الأُموية من مزيج البعث العراقي والوهابية السعودية، وأهمها القاعدة و(داعش).

    وفي الفصل الثامن: موقع الدولة السعودية في المنظومة الطائفية، جرى بحث حقيقة قيادة الدولة السعودية للمنظومة الطائفية الحديثة، وانتماء فصائل الإرهاب الحالي إلى العقيدة الوهابية السعودية، والدوافع المركبة للانتحاريين الوهابيين في العراق، واستهداف السعودية الوجودي للشيعة العرب أكثر من غيرهم، وخاصة شيعة العراق، وتراكم وعي المسلمين تجاه دور النظام السعودي؛ الأمر الذي ظل يثمر عن إحباط حروبه الطائفية. وأخيراً؛ فكك الفصل فكرة تراجع الحكم السعودي عن أفكاره الوهابية، وأكّد حاجته الأبدية المصيرية إلى المؤسسة الوهابية.

    وتخصص الفصل التاسع في موضوع: الدعاية الطائفية، وهو عنوان الفصل، وكشف عن مركزية الدعاية في المنظومة الطائفية، واستعرض محاور الدعاية الطائفية الرئيسة الثلاثة: انحراف الشيعة عقيدياً وكفرهم، والعلاقة الوثيقة بين الشيعة واليهود، وكون الشيعة إرهابيين، وأشار إلى الشيوخ والكتّاب والسياسيين الطائفيين الذين يروجون لهذه الأفكار، عبر الكتب والمقالات والخطابات، وتوقف عند أحد أبرزهم وهو الشيخ يوسف القرضاوي.

    وختم الكتاب موضوعاته بالقضية المركزية التي تعبر عن الهدف النهائي للكتاب ومؤلفه؛ فخلال فصول الكتاب ظل الباحث يدفع المسلمين باتجاه استشعار خطورة وجود المنظومة الطائفية وفتنها القائمة ومؤامراتها؛ لكي يقتنعوا بأنّ الحل الوحيد يتمثل في التعاون لمواجهتها، وصولاً إلى تحقيق غاية نفض غبار سلبيات الطائفية عن واقع المسلمين، ولو بشكل نسبي، وتعايشهم وتعاونهم؛ فالفصل العاشر: رؤية واقعية لوحدة المسلمين، أكد على دور المثقف المنتمي في تفكيك عوامل الأزمات الطائفية، وعلى ضرورة نزول مشروع الوحدة الإسلامية من مستوى الشعارات والخطاب التحريضي والإعلامي إلى مستوى واقعية العناوين والمنهج والأساليب، لكن الوحدة الإسلامية والوحدة الوطنية مفهومين منتجين حقيقيين وواقعيين، ثم قارن بين منطق رافضي دعوات الوحدة ومنطق الحوار، وفكّكَ خرافة إسلام بلا مذاهب، وأشار إلى سقوط المفهوم السلطوي لوحدة المسلمين، وأنّ التقريب ينبغي أن يكون بين المتمذهبين وليس بين المذاهب، كما فصّل في جوانب وحدة التعايش والشراكة بين المسلمين، وخاصة الجانب العلمي، الذي يقوم على قواعد التعارف والحوار والمراجعة الذاتية والتقارب المعرفي.