اخر الاخبار

مفهوم البلد في القرآن الكريم (وانت حل بهذا البلد) (ح 4)‎

د. فاضل حسن شريف

جاء في تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: قوله تعالى عن بلد “لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)”  (البلد 1-2) تذكر السورة أن خلقة الإنسان مبنية على التعب والمشقة فلا تجد شأنا من شئون الحياة إلا مقرونا بمرارة الكد والتعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب والمشقة ولا سعادة له خالصة من الشقاء والمشأمة إلا في الدار الآخرة عند الله. فليتحمل ثقل التكاليف الإلهية بالصبر على الطاعة وعن المعصية وليجد في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم والفقر والمرض وأضرابها حتى يكون من أصحاب الميمنة وإلا فآخرته كأولاه وهومن أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة. و سياق آيات السورة، يشبه السياق المكي فيؤيد به كون السورة مكية وقد ادعى بعضهم عليه الإجماع، وقيل: السورة مدنية والسياق لا يساعد عليه، وقيل: مدنية إلا أربع آيات من أولها وسيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: “لا أقسم بهذا البلد” ذكروا أن المراد بهذا البلد مكة وتؤيده مكية سياق السورة و قوله: “ووالد وما ولد” خاصة بناء على كون المراد بوالد هو إبراهيم عليه السلام على ما سيجيء. قوله تعالى: “وأنت حل بهذا البلد” حال من هذا البلد، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله: “بهذا البلد” للدلالة على عظم شأنه والاعتناء بأمره وهو البلد الحرام، والحل مصدر كالحلول بمعنى الإقامة والاستقرار في مكان والمصدر بمعنى الفاعل. والمعنى أقسم بهذا البلد والحال أنك حال به مقيم فيه وفي ذلك تنبيه على تشرف مكة بحلوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها وكونها مولده ومقامه. وقيل: الجملة معترضة بين القسم والمقسم به والمراد بالحل المستحل الذي لا حرمة له قال في الكشاف،: واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: “وأنت حل بهذا البلد” يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل  يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته انتهى. ثم قال: أو سلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقسم ببلده أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال: “وأنت حل بهذا البلد” يعني وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر إلى آخر ما قال، ومحصله تفسير الحل بمعنى المحل ضد المحرم، والمعنى وسنحل لك يوم فتح مكة حينا فنقاتل وتقتل فيه من شئت.

قال الله تعالى عن بلد “وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ” ﴿النحل 7﴾، و “وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَىٰ بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ كَذَٰلِكَ النُّشُورُ” ﴿فاطر 9﴾، و “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ” ﴿البقرة 126﴾، و “لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ” ﴿آل عمران 196﴾، و “وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” ﴿الأعراف 57﴾، و “وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ” (البلد 2).

وردت كلمة بلد ومشتقاتها في القرآن الكريم: بَلَدًا، الْبِلَادِ، لِبَلَدٍ، وَالْبَلَدُ، الْبَلَدَ، بَلَدٍ، بَلْدَةً، الْبَلْدَةِ. وعن تفسير الجلالين لجلال الدين السيوطي: قوله تعالى عن بلد “وَأَنتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ” (البلد 2) “وأنت” يا محمد “حِلٌ” حلال “بهذا البلد” بأن يحل لك فتقاتل فيه، وقد أنجز الله له هذا الوعد يوم الفتح، فالجملة اعتراض بين المقسم به وما عطف عليه.

وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى عن بلد “لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)”  (البلد 1-2) “لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ”. المراد بالبلد مكة المكرمة بأشرف بيت وضع للناس مباركا، وبأعظم نبي ولد فيها، وأرسل رحمة للعالمين “وأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ”. الخطاب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحل أي حال ومقيم، والواو للحال، وعليه يكون القسم بمكة مقيدا بإقامة الرسول فيها إشعارا بأن مكة زادت رفعة بمولده وإقامته. واختار الشيخ محمد عبده قول من قال: ان حلا هنا بمعنى الحلال لا بمعنى الحلول أي ان أهل مكة استحلوا إيذاء الرسول في البلد الأمين حتى اضطروه إلى الهجرة منه. وهذا المعنى صحيح في نفسه، ولكنه بعيد عن مدلول اللفظ، فإن المتبادر إلى الافهام من “أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ” هو أنت مقيم فيه، لا أنت حلال فيه.

وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى عن بلد “لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)”  (البلد 1-2) “لا اُقسم بهذا البلد” (لا): زائد للتأكيد، وقيل إنّها نافية. في مواضع كثيرة يبدأ القرآن بالقسم عند تعرّضه للحقائق الهامة… بالقسم الذي يؤدي بدوره إلى حركة في الفكر والعقل بالقسم المرتبط ارتباطاً خاصّاً بالموضوع المطروح. وفي هذا الموضع تبدأ الآية بالقسم: قسماً بهذه المدينة المقدسة مكّة: “لا اُقسم بهذا البلد” لتقرر حقيقة من حقائق حياة الإنسان، هي إنّ هذه الحياة مقرونة بالآلام والأسقام. “وأنت حلٌّ بهذا البلد” لم يرد ذكر (مكّة) في الآية صريحاً، لكن الدلالات تشير إلى أن المقصود بالبلد مكّة، فالسّورة مكّية، وأهميّة هذه المدينة المقدّسة لا تبلغها مدينة، والمفسّرون مجمعون على ذلك. أرض مكّة مشرّفة ومعظمة، لأنّ فيها أوّل مركز للتوحيد ولعبادة اللّه سبحانه، وكان هذا المركز مطاف أنبياء اللّه العظام. ولذلك أقسم اللّه بها. ولكنّ السّورة تشير إلى عامل آخر أضفى على هذه المدينة شرفاً وكرامة: “وأنت حِلّ بهذا البلد” فالبلد استحق أن يقسم به اللّه لوجودك أنت أيّها النّبي الكريم فيه. فلا يتصورنَّ كفار مكّة أنّ القرآن يقسم ببلدهم تكريماً لهم ولأوثانهم، لا فهذا البلد مكرم لما يحمله من تاريخ الرسالات السماوية.. ولما يحتضنه من رسالة خاتمة، ونبي خاتم. وفي الآية تفسير آخر يعتبر (لا) في الآية السابقة نافية ويكون المعنى: (لا اُقسم بهذا البلد المقدس حال كون حرمته قد هتكت والأنفس والأموال والأعراض فيه قد اُحلّت واُبيحت). ويكون ذلك على هذا التّفسير توبيخاً وتقريعاً لكفار قريش وهم الذين يعتبرون أنفسهم خَدَمَة الحرم وسدنته، ويكنّون له احتراماً يفوق كلّ احترام حتى أن الرجل منهم يرى قاتل أبيه فيه فلا يتعرّض له بل حتى قيل إنّ الرجل يحمل معه شيئاً من لحاء أشجار مكّة فلا يتعرّض له أحد. فلماذا إذن لم تراعوا هذه الآداب والتقاليد في حقّ النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ لماذا تماديتم في إيذائه وإيذاء صحابته، حتى سولت لكم أنفسكم استباحة دمه؟! وقد ورد هذا التّفسير في حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادقعليه السلام أيضاً.