د. فاضل حسن شريف
تكملة للحلقة السابقة عن تفسير الميسر: قال الله تعالى عن عوجا: “الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَـٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ” ﴿إبراهيم 3﴾ عوجا اسم، يبغونها عوجا: يطلبونها مُعوجّة أو ذات اعوجاج. يَبْغونَها عِوَجاً: يحبون أن يكون سبيل الله موافقاً لأهوائهم العوجاء. قوله عز وجل “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا” ﴿الكهف 1﴾ عوجا: اختلال أو اختلاف. لم يجعل له عوجا: اختلالا و لا اختلافا و لا انحرافا عن الحقّ و لا خروجا عن الحكمة. وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا: لم يجعل فيه زيفا ولا ميلا عن الحق. الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال، وبنعمه الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، الذي تفضَّل فأنزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم القرآن، ولم يجعل فيه شيئًا من الميل عن الحق. قوله جل جلاله “لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا” ﴿طه 107﴾ عِوَجا: مكانا مُنخفضا. أو انخفاضا. فيترك الأرض حينئذ منبسطة مستوية ملساء لا نبات فيها، لا يرى الناظر إليها مِن استوائها مَيْلا ولا ارتفاعًا ولا انخفاضًا. قوله عز اسمه “يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ۖ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا” ﴿طه 108﴾ عوج اسم، لا عوج له: لا يعوجُّ له مدعوٌّ ولا يزيغُ عنه. أو لا معدلَ له عنهم، أي عن دعائه لا يَزيفون ولا ينحرفون، بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه. لا عِوَجَ لَهُ: لا يتأخر مدعو ولا يزيغ عنه. في ذلك اليوم يتبع الناس صوت الداعي إلى موقف القيامة، لا محيد عن دعوة الداعي، لأنها حق وصدق لجميع الخلق، وسكنت الأصوات خضوعًا للرحمن، فلا تسمع منها إلا صوتًا خفيًا. قوله سبحانه “قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” ﴿الزمر 28﴾ غير ذي عوج: غير ذي لَبس. أو غير ذي انعطاف عن حالة الانتصاب. أو غير متضاد. ولقد ضربنا لهؤلاء المشركين بالله في هذا القرآن من كل مثل من أمثال القرون الخالية تخويفًا وتحذيرًا، ليتذكروا فينزجروا عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله. وجعلنا هذا القرآن عربيًا واضح الألفاظ سهل المعاني، لا لَبْس فيه ولا انحراف، لعلهم يتقون الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
جاء في تفسير غريب القرآن لفخر الدين الطريحي النجفي: (عوج) إعوجاج: في الدين ونحوه وقوله: “يبغونها عوجا” (الاعراف 45) (هود 19) (إبراهيم 3) أي يطلبون لها الاعوجاج بالشبه التي يتوهمون أنها قادحة فيها، “والداعي لا عوج له” (طه 108) أي لا تعويج لدعائه من قولهم: عوج الشئ بالكسر فهو عوج، قال ابن السكيت: كل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه عوج بالفتح والعوج بالكسر ما كان في الأرض أي دين أو معاش، يقال: في دينه عوج. قال تعالى: “لا ترى فيها عوجا ولا أمتا” (طه 107) أي لا ارتفاعا ولا هبوطا ويقال: نبكا والنباك: التلال الصغار قاله في القاموس. عن الأزهري تبديلها: تسيير جبالها، وتفجير بحارها، وكونها مستوية لا فيها عوجا ولا أمتا.
عن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى “لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)” (طه 107-108) “لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا” (طه 107) سأل سائل رسول اللَّه صلى الله عليه واله وسلم: كيف تكون الجبال يوم القيامة؟ فقال سبحانه لنبيه الكريم: قل مجيبا عن هذا السؤال: ان اللَّه يقتلعها من أصولها، ويصيّرها غبارا منتشرا في الفضاء، ويدع أماكنها من الأرض ملساء، لا شيء فيها، ولا ارتفاع، ولا انخفاض. ” يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ” (طه 108). يومئذ هو يوم القيامة، وضمير يتبعون يعود إلى الخلائق، والداعي هوالذي يدعوهم إلى المحشر والحساب والجزاء، وضمير له يعود إلى الداعي بلحاظ دعوته، والمعنى ان دعوة الداعي حق، ومستجابة عند الجميع، ولا أحد يستطيع التخلف عنها: “يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَىٰ شَيْءٍ نُّكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ (7) مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ۖ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَٰذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)” (القمر 6-8).
قوله عز وجل “قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” (الزمر 28). القرآن عربي لغة، وإنساني دينا ومبدأ لا يحده زمان ومكان، ولا قومية وعنصرية: “وما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً” (سبأ 28)، وهو مستقيم في مبناه ومحتواه، لا لبس فيه ولا انحراف لأنه من لدن عليم حكيم يهدف إلى هداية الناس وإرشادهم إلى جادة الحق وصراطه القويم. وتقدم مثله في الآية 2 من سورة يوسف ج 4 ص 286 والآية 37 من سورة الرعد والآية 20 من سورة طه. وتسأل: هل تجوز ترجمة القرآن إلى اللغات الأجنبية؟ ومع الجواز هل تجري احكام القرآن على ترجمته فلا يمسها إلا المطهرون؟ الجواب: لا شبهة ولا ريب في جواز ترجمة القرآن إلى كل اللغات، بل ورجحانها أيضا لأن القرآن هو رسالة اللَّه والإسلام إلى الإنسانية كلها، والترجمة عامل أساسي على بث هذه الرسالة الإلهية المحمدية وانتشارها. وقد أسلم جماعة أو عرفوا حقيقة الإسلام عن طريق ترجمة القران. وتجدر الإشارة إلى أن القرآن مترجم إلى 27 لغة، وأول ترجمة له كانت سنة 1143 ميلادية (مجلة اللسان العربي. (الرباط) عدد كانون الثاني 1969). وأيضا لا شك ان ترجمة القرآن لا تجري عليها أحكام القرآن. أولا لأن العربية من خصائص القرآن ومقوماته: “إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا” (يوسف 2).
وعن الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله تعالى “قرآناً عربياً غير ذي عوج” (الزمر 28). في الحقيقة، تمّ هنا ذكر ثلاث صفات للقرآن: الأُولى كلمة “قرآناً” التي هي إشارة إلى حقيقة أنّ الآيات الكريمة ستبقى تتلى دائماً، في الصلاة وفي غير أوقات الصلاة، في الخلوات وفي أوساط الناس، وعلى طول التاريخ الإسلامي حتى قيام الساعة، وبهذا الترتيب فإن آيات القرآن ستبقى نور الهداية المضيء على الدوام. الصفة الثانية هي فصاحة وحلاوة وجاذبية هذا الكلام الإلهي، الذي عبّر عنه بـ “عربياً” لأنّ إحدى معاني العربي هي الفصاحة، والمقصود منه هنا هذا المعنى. الصفة الثّالثة، ليس فيه أي إعوجاج، فآياته منسجمة، وعباراته ظاهرة ويفسّر بعضها البعض. الكثير من اللغويين وأصحاب التّفسير قالوا: إنّ (عوج) (بكسر العين) تعني الإنحرافات المعنوية، في حين أنّ (عوج) بفتح العين، تعني الإعوجاج الظاهر. ومن النادر استعمال العبارة الأولى في الإعوجاج الظاهري، ما في الآية (107) من سورة طه: “لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً” (طه 107) لهذا فإنّ بعض اللغويين يعتبرونها أكثر عمومية. وعلى أية حال، فإنّ الهدف من نزول القرآن الكريم ـ بكل هذه الصفات التي ذكرناهاـ هو “لعلهم يتقون”. وممّا يلفت النظر أنّ الآية السابقة انتهت بعبارة: “لعلهم يتذكرون” وهنا انتهت بعبارة: “لعلهم يتقون” لأنّ التذكّر يكون دائماً مقدّمة للتقوى و (التقوى) هي ثمرة شجرة (التذكر).
جاء في كتاب التشريع الإسلامي مناهجه و مقاصده للسيد محمد تقي المدرسي: من مصاديق الصد عن سبيل الله الصد عن المسجد الحرام، فالذين يصدون عنه لهم عذاب أليم. ومن مصاديق الصد: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ” (آل عمران 99)، لا يجوز الصد عن سبيل الله بالوعيد والقوة، او الخداع والتزييف، كما فعل بعض اهل الكتاب، الاحبار والكفار من الاحبار والرهبان.