الطريق إلى فهم القرآن.. الجزء التاسع
    

 

المثل هو حكاية شعب يعيش تحت عنوان حضارة واحدة أو بيئة واحدة لها قواسم مشتركة تميزها عن غيرها، وقد يعتمد على وضوح المعنى بقليل من الألفاظ، ويمتاز المثل أيضاً بأن ليس له قائل أي إنه حكاية إرث جماعي، فإن قيل إن هذا المثل من تأليف زيد أو عمرو فهذا ليس من الصحة في شيء، فهو كالفنون الجماعية التي ليس لها مؤلف بعينه ولكنها إرث مشترك يمثل هوية البيئة التي تخرج منها، وبناءً على ما مر يظهر أن المثل هو إرث جماعي يضرب إما لحكمة معينة يسهل تداولها بين الناس أو لتشبيه حالة معنوية بواسطة أخرى حسية لأجل أن يُفهم المعنى المراد من الأولى، ويُعنى بضرب الأمثال تسييرها في البلاد، حيث إن معنى الضرب هو السير كما في قوله تعالى: (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)  المزمل 20. أي يسيرون، ويكثر استعمال الأمثال في الكتب السماوية لأجل توضيح المعاني بطرق يستوعبها المتلقي حيث لا يمكن تقريب الغيبيات التي لم نشاهدها أو ندركها بحواسنا إلا عن طريق ضرب الأمثال، باعتبار أن فهمها متيسراً لدى الجميع، وقد بين تعالى العلة من الأمثال بأنها للتذكير والتفكير كما في قوله: (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) إبراهيم 25. وقوله: (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) الحشر 21.

 

والقرآن الكريم كونه نزل بلغة العرب وعلى قواعدهم لذلك نراه قد استعمل نفس الأدوات المتعارف عليها عندهم من مجاز وبديع وتشبيه وطباق وجناس وحكم وأمثال وغيرها، ومن يعترض على هذا فإنه جاحد لكتاب الله، كما هو الحال مع الذين تمسكوا بنفي المجاز عن القرآن الكريم ظناً منهم أن الله تعالى ليس بحاجة للمجاز فهو لا ينقصه شيئاً بعكس الشاعر الذي يحتاج إلى الضرورة الشعرية أو الخطيب الذي يحتاج إلى الأدوات المكملة لحديثه بغض النظر عن الزيادة أو النقصان، وللرد على هؤلاء يجب أن نبين أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم بما يناسب تعبيرنا واستعمالنا للغة، لا أن هناك لغة خاصة تنسب إليه جل شأنه، وهذا ظاهر من قوله: (سنفرغ لكم أيها الثقلان) الرحمن 31. وأنت خبير من أن الله تعالى لم يشغله شيء حتى يفرغ منه ويتجه للثقلين يوم القيامة.

 

من هنا يظهر أن الإرث الجماعي يمكن أن يكون حالة معينة بعيدة عن الفنون أو اللغة، كما هو الحال مع المرأة الحمقاء في مكة التي كانت تأمر فتياتها بالغزل ثم بعد إتمامه تأمرهن بنقضه بسبب جنونها، لذلك فإن القرآن الكريم لم يغفل هذه الحالة بل ضرب بها مثلاً للذين يتخذون أيمانهم دخلاً أي "غشاً" بينهم كما في قوله تعالى: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم) النحل 92.

 

من هنا نعلم أن المثل لا بد أن يكون من صنيع البيئة التي ينشأ فيها فلا يمكن أن نأتي بمثل صناعي في بلاد عرفت بالزراعة أو العكس، وكذلك لا يمكن ضرب الأمثال الصحراوية في بيئة مائية وهكذا. ولهذا فإن القرآن الكريم جارى العرب بضرب الأمثال التي تناسب ما ألفوه في معيشتهم، فنجد الأمثلة التي استعملها القرآن في مكة تعتمد على ذكر الحيوانات التي تعيش بينهم والعبد المملوك والحشرات وغيرها ولكن بعد الهجرة للمدينة نجد أن الأمثلة قد أخذت تتغير لما كانت تشتهر به كوجود المصباح في زجاجة وفتنة الذهب لغرض الحلية والمتاع وغير ذلك ولو أن هذه الأمثال نزلت في مكة لم يكن باستطاعتهم معرفة مدلولها أو حتى ماذا تعني ألفاظها، والأمثال في القرآن الكريم كثيرة ولكل منها غرض يعالج حالة معينة كاجتناب ما ينهى عنه أو أمر يلزم اتباعه ولنأخذ أحد هذه الأمثلة ثم نسلط الضوء على ما يراد منه.

 

 في قوله تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون) العنكبوت 41. هذا المثل ضربه تعالى للذين يتخذون ولياً غيره جل شأنه معتقدين أن هذا الولي هو المنقذ الذي يجب التحصن به كأن يكون حاكماً أو عالماً أو كل ما يقدس على طريقة أهل الضلال، أو من المشاهير الذين توجه إليهم الأنظار أكثر مما توجه إلى الله تعالى، علماً أن هؤلاء لا يدفعون ضراً ولا يجلبون نفعاً، فلذلك شبه تعالى حال من يلجأ إليهم بحال العنكبوت التي اتخذت بيتاً في غاية الوهن، وأنت خبير بأن هذا البيت لا يمكن أن يتكفل بحمايتها من الأخطار الخارجية.

 

ومن أوهن الأقوال التي قيلت في هذه الآية الكريمة هو ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن هذه الآية تحدثت عن العنكبوت كونها أنثى وعلى هذا الرأي فإن البيت المقصود الذي ضرب المثل لأجله هو البيت الذي يكون تحت تصرف المرأة دون الرجل وأرادوا بذلك التقليل من مكانة المرأة، وهذا من أضعف الآراء حيث لا علاقة للأنثى بالآية الكريمة، أما لفظ التأنيث فيها فهو ظاهر كما في النمل أو النحل، ومما يضعف آراء هؤلاء أن تأنيث العنكبوت من اللغات التي تعارف العرب عليها قبل نزول القرآن الكريم كما قال أحد الشعراء:

 

ولو أن أم العنكبوت بنت لهم... مظلتها يوم الندى لأكنـت

 

وقال أهل اللغة: العنكبوت لفظ مؤنث جائز فيه التذكير كالروح والطاغوت، العنق، السلطان، السماء، السبيل، الطريق، والسكين... إلخ.

 

فإن قيل: لماذا وضع تعالى الظاهر موضع المضمر في قوله: "وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت"؟ أقول: لأجل أن يسير هذا المثل بين الناس ولو قال لبيتها لانتفت هذه النكتة.

 

 

 

      عبدالله بدر اسكندر

محرر الموقع : 2017 - 02 - 22