اللهجة العامية العراقية.. بدايات التشكل والإسهامات الحضارية فيها
    

كلمات دخلت اللهجة العامية العراقية لاسباب عدة من بينها الجغرافية، والتاريخية وذلك عبر قرون مختلفة ومازالت نرى بعض المفردات باقية من الآرامية.

تعرف اللهجة العامية العراقية تنوعاً ثرياً لافتاً للنظر، وسيلاحظ الباحث في بنيتها وجود عشرات المفردات والتعبيرات التي دخلت إلى ثقافة بلاد الرافدين في العصور القديمة، وتسببت العوامل التاريخية والجغرافية والسياسية في شيوع الظاهرة عبر القرون.

في هذا المقال، نحاول التعرف على بدايات تشكل اللهجة العراقية، والإسهامات الحضارية في ذلك، على مرّ العصور.

منذ بدء الكتابة

بنى السومريون العديد من المدن المتطورة في المنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات في جنوب العراق، من أشهرها: كيش، وأوروك، وأور، ولجش، وإيسن. وفيها ظهرت الإرهاصات الأولى لعلوم الحساب والطب والفلك والهندسة والريّ، كما تطورت التقنيات المرتبطة بمهن الزراعة والتجارة والصناعة، وشهدت بناء المعابد والقصور وساحات المعارك والأسواق والمنازل.

في هذا السياق، ظهرت الكتابة السومرية عام 3200 قبل الميلاد على وجه التقريب، وعُرفت بالكتابة المسمارية، لأنها كانت تُكتب على ألواح من الطين أو الشمع أو الحجر بأدوات حادة، وكانت رسومها تشبه المسامير.

يقول المؤرخ صموئيل نوح كريمر، في كتابه” السومريون”: “حينما ابتكر شعب بلاد الرافدين الكتابة أدركت باقي الشعوب أهمية هذا الابتكار المهم، فاستعارت الخط المسماري ووظفته بما يناسب لغاتها، وانتشرت الكتابة المسمارية في عيلام وأوغاريت وفينيقيا وصولاً لسواحل المتوسط وكذلك في بلاد الحيثيين شمالاً”.

في ما بعد عرف العراقيون القدماء مجموعة من اللغات التي اُستعملت على نطاق واسع، منها: الآرامية، والأكادية، والبابلية، والأشورية.

وبقي استعمال تلك اللغات قائماً لمئات السنين، وظلت حاضرة في التعبيرات العراقية المتوارثة بسبب قربها من اللغة العربية التي عرفها العراق بعد دخول الإسلام إلى بلاد الرافدين في القرن السابع الميلادي.

الفارسية والتركية

حضرت اللغة الفارسية أيضاً بشكل قوي في العاميّة العراقية، بسبب القرب الجغرافي بين العراق وإيران، وبالمنطق ذاته عرف العراقيون الكثير من الكلمات التركية التي شاع استعمالها في فترة الحكم العثماني للبلد.

كما انتقلت بعض الكلمات المغولية إلى اللهجة الشعبية العراقية في القرن السابع الهجري بسبب الغزو المغولي للعراق، حيث حكم المغول الإلخانيون بلاد الرافدين لعشرات السنين وتركوا خلفهم الكثير من ألفاظهم وتعبيراتهم.

يقول الباحث العراقي طه باقر في كتابه “مِن تُراثنا اللغوي القديم”: “…تفرّد العراق من بين الأقطار العربية بضخامة تُراثه اللغوي القديم من اللغات القديمة التي ازدهرت في حضارته التأريخية بمُختلف أدوارها المتعاقبة وخلفت رواسب لغوية كثيرة ومتراكمة لا تزال آثارها باقية في اللهجة العراقية العربية الدارجة وفي اللهجات العربية الأخرى في أرجاء الوطن العربي ولكن بدرجات أقل…”.

كلمات أصلها آرامي

لعبت اللغة الآرامية القديمة دوراً مهماً في تشكيل العامية العراقية المعاصرة، ومن أشهر الكلمات الآرامية المستعملة في العراق كلمة “بلابوش” التي تعني الحياء، ويستخدم العراقيون تعبير “بلا بوش” للشخص الذي لا يستحي ولا يخجل.

كذلك توجد كلمة “يفوخ” التي اُشتقت من الجذر الآرامي “فوخ” بمعنى ينفخ. وتستخدم تلك الكلمة في بعض التعابير الشائعة مثل “فوّخ الجمجمة ببطل عرق”، بمعنى أرح الرأس بشرب زجاجة عرق.

في السياق نفسه، توجد كلمة “مسكگوف” وهي كلمة ذات أصل آرامي تعني “مخوزق” أو “مُسيّخ”، وتطلق تلك الكلمة على نوع من أنواع السمك، وهو السمك الذي توضع فيه الأسياخ بشكل عرضي ليتم شواؤه على النار.

أيضاً يعرف العراقيون كلمة “شاغ” وهي كلمة آرامية الأصل بمعنى ذهب أو ضاع، ومنها التعبير “شاغت روحه” أي فقد وعيه أو ذهبت روحه.

كما ويعرفون كلمة “بوجي” التي تُطلق في بعض مناطق العراق على الكلب الصغير، ويُعتقد أن أصل تلك الكلمة مشتق من كلمة البوگكي في اللغات البابلية والآرامية القديمة، وكانت تلك الكلمة تستخدم للإشارة لبعض الكائنات الروحية الغامضة.

يدك حدادي!

يذكر الباحث العراقي علاء اللامي في كتابه “الحضور الأكدي والآرامي والعربي الفصيح في لهجات العراق والشام العامية”، مجموعة أخرى من الكلمات ذات الأصل الآرامي.

منها “صنطة” التي تعني الهدوء والسكينة. و”عُگكركة” التي تعني الضفدع، المُشتقة من اللفظ الآرامي عقروقا.

و”شعواط” التي تشير إلى من مسته النار مساً خفيفاً دون أن تحرقه.

و”جــا” التي تستعمل على نطاق واسع في مناطق جنوب العراق، فيقال: “جـا شلون” بمعنى “كيف إذن؟”، أو “جـا شفت شلون؟” بمعنى “هل رأيت كيف؟”، “وجـا ليش؟”، بمعنى “لماذا إذن؟”، وأصلها من كلمة “قا” أو “كا” الآراميتين.

كذلك توجد كلمة “طركاعة” بمعنى الهيجان العظيم، والاضطراب الشديد، وهي مشتقة من الجذر الثلاثي الآرامي ط.ر.ق بمعنى: يخفق، يخلط، يقلق. ويقال: طرك البيض أو طرك اللبن بمعنى خفقه وحركه، وتعني “طركاعة” أيضاً “تشويش أو إزعاج أو فوضى”.

وفي دراسة بعنوان “ﻛﻠﻤﺎﺕ ﺁﺭﺍﻣﻴﺔ ما زالت حية في العامية العراقية”،  يذكر الباحث صباح مال الله كلمات مثل “يدك حدادي”، وهو تعبير آرامي يعني ضرب كفاً بكف، ويردده بعض العراقيين عند الوقوع في ورطة من العسير الخروج منها. و”اسليمة”، التي تعني الموت، وتدخل في الكثير من التعبيرات الشائعة في العامية العراقية.

على سبيل المثال هناك تعبير (اسليمة كرْفـَتـَـه) يطلقه العراقي على من لا يطيقه، وهناك أيضاً تعبير (اسليمة كرفته) وهي نوع من الدعاء على شخص ما بمعنى ليت الموت يأخذه.

كلمات غير آرامية في اللهجة العراقية

وهناك بعض الكلمات التي تعود أصولها إلى لغات قديمة قريبة من الآرامية، منها كلمة “كش” وهي كلمة سومرية الأصل بمعنى اهرب أو انصرف.

ويستخدمها العراقيون في بعض التعابير الشائعة مثل “كش برد حيلك” أو “كش بره وابعيد” لطرد الشر والتخلص من المشاعر السلبية كالتشاؤم والحسد.

وكلمة “حرمة” التي جرى اشتقاقها من اللغة الأكدية القديمة من لفظ “حرماتو” أو “شمخاتو”، التي تعني كاهنة المعبد وكانت مكلفة بأداء شعائر البغاء المقدس في معابد الإلهة العراقية القديمة عشتار.

كذلك يستخدم العراقيون كلمة “بوري”، وهي كلمة أكدية قديمة تشير إلى قصبة نبات البردي المجوفة الذي كان ينمو في بعض المناطق بالعراق، وصار العراقيون يستخدمونها للإشارة إلى الشكل الأنبوبي، ومن تلك الكلمة جاءت كلمة بواري بمعنى حصائر القصب، ويقول العراقيون في التعبير الشائع اليوم إن “فلاناً انضرب بوري”، بمعنى تم الاحتيال عليه واستغفاله.

كلمات أصلها: تركي وفارسي وكردي ومغولي

توجد العشرات من الكلمات التركية والفارسية والكردية والمغولية التي انتقلت للعامية العراقية في القرون السابقة، من أشهرها “سَرْسَري”، وهي تركية الأصل تعني العاطل عن العمل، وتستخدم في العامية العراقية للإشارة إلى الشخص سيء الخلق الذي يقوم بالتحرش الجنسي.

وكلمة “الإيلجية” تركية الأصل أيضاً، يرجع استعمالها في العراق لعصر حكم المغول في القرن الثامن الهجري، وتشير إلى سعاة البريد أو السفراء والمبعوثين، بحسب ما ذكر محمد رضا الشيبي في كتابه “معجم وأصول اللهجة العراقية”.

ومن الكلمات الفارسية المستخدمة في الدارجة العراقية، “سْيبَندي”، وهي مكونة من مقطعين: سي بمعنى ثلاثة، بند بمعنى طرف، ومعناها هو الأطراف الثلاثة أو المربوط من الأطراف الثلاثة، ويرجع أصل تلك الكلمة للمجرم الذي كان يقيد من رجليه وإحدى يديه حتى يأمن الناس شره، ولا تزال تستخدم في بعض اللهجات العراقية للإشارة إلى الأشرار والرعاع.

وكلمة “زَقْنَبوتْ” التي يستعملها العراقيون في بعض المواقف المصاحبة لتناول الطعام، منها قولهم “زقنبوت في بطنك!”، وتُستعمل لذم الأكل الذي يتناوله المذموم، وقد يقصد بها تناول السم.

ويوجد اختلاف في تحديد أصل تلك الكلمة، يذهب البعض إلى أنها شامية، فيما يرى آخرون أنها كردية أو مغولية الأصل.

كذلك يستعمل العراقيون كلمة “پير” وتشير إلى الرجل الكبير في السن الذي دخل إلى مرحلة الشيخوخة.

يرى البعض أن أصل الكلمة كردي أو فارسي ويرجع إلى كلمة پير التي يقصد بها المرشد الروحي أو الزعيم الديني، فيما يرى آخرون أن الكلمة ذات أصل هندي بمعنى رئيس، ودخلت إلى العامية العراقية في بدايات القرن العشرين بالتزامن مع وصول الآلاف من الجنود الهنود إلى العراق للمشاركة في الحرب العالمية الأولى.

وتجدر الإشارة إلى أن كلمة پيرة في العامية العراقية صارت كنية للمرأة “القوادة” التي تُدير منازل اللهو والبغاء.

المصدر: ارفع صوتك

محرر الموقع : 2023 - 04 - 20