اللغة السريانية لغة المسيحيين الأولى ولغة الطقوس الدينية.. صمود رغم الداء والأعداء
    

 

 

 

اللغة السريانية لغة المسيحيين الأولى وأيضاً لغة الطقوس الدينية التي يتم اقامتها في كنائس العراق، اذ ظل العراقيون المسيحيون يتحدثون بالسريانية وينقلونها من جيل إلى آخر، وعلى رغم موجات الهجرة للمكون المسيحي.

وتعود أولى الكتابات السريانية المدونة للقرنين الأول والثاني قبل الميلاد، لكنها بلغت ذروتها بين القرنين الخامس والسابع بعد الميلاد، ولم يقتصر التعامل بها على الكتب الدينية بل كانت لغة التعاملات الحكومية والفلسفة والعلوم والأدب. لكن في ظل تقدم اللغة العربية في المنطقة تراجع استخدام السريانية منذ القرن الـ11 لكنها لم تندثر تماماً.

واعتنى المسيحيون في العراق بلغتهم الأم وتداولوا الآداب السريانية، وقد خلفوا آلاف المخطوطات وكانت الأديرة مثل “دير هرمزد” في القوش و”دير متي” في الموصل وأخرى في بغداد ودهوك وأربيل، بمثابة مراكز علمية وثقافية للتأليف في مختلف مجالات المعرفة التي كانت سائدة منذ القرن الـ 13.

ومهد السريان لنمو نهضة ثقافية أسهمت في تطوير مظاهر الحضارة العربية الإسلامية، فعندما أسس الخليفة المأمون داراً للحكمة في بغداد تولت ترجمة كثير من التراث الإغريقي، وكان المترجمون فيها من السريان العراقيين ومنهم حنين بن إسحاق الذي ترجم كثيراً من روائع الفلسفة اليونانية، كما أسهم السريان بابتداع الطراز الحيري في البناء وتصميم النقوش النباتية، وأسهموا في بناء أكثر من 15 قصراً في مدينة الحيرة (مملكة عربية تقع في الجزء الجنوبي من وسط العراق على مقربة من مدينة الكوفة) إضافة إلى عشرات الأديرة والكنائس التي بنيت على طراز شرقي وعراقي.

قوانين حافظت على اللغة

وبعد استقلال العراق عام 1932 سمح بتدريس السريانية في المدارس الأهلية التي تديرها الكنائس واستمر الأمر حتى 1968، وفي عام 1970 وافقت الحكومة العراقية على إقامة مجمع علمي للغة السريانية واستمر ما يقرب من 10 أعوام ثم أدمج مع المجمع العلمي العراقي وأصبح قسماً من أقسامه باسم دائرة السريانية، ومنذ عام 1991 درست السريانية في كردستان العراق خلال المراحل الثلاث الابتدائية والمتوسطة والإعدادية.

وبهدف إعطاء الخصوصية والاهتمام لتعليم السريانية تأسست في السابع من‏ أغسطس (آب) 2012 المديرية العامة للدراسة السريانية بعد أن كانت قسماً في المديرية، مثل الكردية واللغات الأخرى، كما نص الدستور العراقي على تعليم اللغات الأم (السريانية) في المدارس العراقية الحكومية، فضلاً عن قانون اللغات رقم (7) لعام 2014 وكذلك قانون وزارة التربية العراقية الاتحادية (22) لعام 2011 في المادة (16) ثالثاً، (ضمان حق العراقيين من السريان بتعليم أبنائهم في المؤسسات التعليمية الرسمية).

أما على صعيد التعليم العالي فهناك قسمان لتدريس السريانية في الجامعات أحدهما في جامعة بغداد (كلية اللغات) والذي تأسس بناء على توصية من المجمع العلمي العراق، الهيئة السريانية، وكلفت نائب رئيسها يوسف فوزي من أجل تحقيق ذلك فحصلت الموافقة على فتح القسم بموجب كتاب مجلس الحكم المرقم (1228) في الـ 31 من مارس (آذار) 2004، وبدأ التدريس في نوفمبر (تشرين الثاني) 2004.

أما القسم الثاني للغة السريانية فقد تأسس في أربيل عام 2016 ليكون ضمن أقسام كلية التربية، جامعة صلاح الدين، كما تدرس السريانية في كلية بابل الحبرية للفلسفة واللاهوت التي تأسست عام 1991 من قبل الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في منطقة عنكاوا في أربيل.

دور المدارس

ويبدي المدير العام للدراسة السريانية في وزارة التربية عماد سالم ججو تفاؤله بما تقدمه المدارس التي تعتمد تدريس السريانية في مناهجها من وسائل للحفاظ على ديمومة اللغة وبقاء تناقلها من جيل إلى آخر، قائلاً “وصل التعليم السرياني في العراق إلى مرحلة متقدمة حالياً بعد مسيرة عمل امتدت على مدى 12 عاماً”.

ويستبعد ججو أن تنقرض تلك اللغة، ويبرر ذلك بقوله “عبرنا طور بناء الأسس لعملية التعليم من حيث المناهج وتطويرها من الناحية اللغوية ومواكبة التطورات الحديثة في التعليم وطرائق التدريس من خلال تدريب المعلمين والحقائب التعليمية والمباشرة بإصدار دليل المعلم، وكل هذا يطمئننا إلى بقاء اللغة السريانية حية”.

يكمل ججو، “يملؤني التفاؤل بمستقبل التلاميذ الملتحقين بهذه المدارس، فمن المستحيل أن تنقرض اللغة السريانية لأنها لغة حية لها جذور تمتد لآلاف السنين وباقية على رغم كل التحديات لأن تعليمها مشوق، وبخاصة أنها تمثل اللغة المحكية للطلبة الدارسين لها باعتبارها اللغة الأم ولنا مشروع أيضاً قيد الدراسة لإرسال المناهج إلى دول المهجر، وذلك للطلب على تعليمها من قبل رجال الدين الغيورين على السريانية خارج العراق”.

تحديات

وطرأ تقدم ملحوظ في تعليم السريانية عقب سلسلة من القوانين التي خصصت لدعم تدريسها، إذ تأتي ثالثة في العراق بعد العربية والكردية، لكن التقدم الأبرز حصل في إقليم كردستان، فهناك صحف ومجلات تصدر بالسريانية فضلاً عن وجود بث إذاعي وتلفزيوني، وكذلك وجود المدارس التي تدرس جميع مناهجها بالسريانية ولا تقتصر على تدريسها كمادة واحدة مثل اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات.

ولعل القوانين والخطط التي تسعي إلى الحفاظ على السريانية تجابه بتحديات يقف في أولها هجرة المكون المسيحي، إذ يوضح المدير العام للدراسة السريانية في وزارة التربية عماد سالم ججو أن عدد المدارس في منطقة سهل نينوى التي تعتمد السريانية في مناهجها كانت قبل دخول “داعش” أكثر من 240 مدرسة بواقع 21 ألف طالب، وبعد هجرة المكون المسيحي أصبح عددها 180 بواقع 12 ألف طالب.

ولا تختلف التحديات في محافظات البصرة وكركوك وبغداد التي تضم مديريات التعليم السرياني عن تحديات مناطق سهل نينوى في تدريس اللغة السريانية، إذ يوضح مدير قسم الدراسة السريانية لتربية بغداد سنار مازن يونس لـ “اندبندنت عربية” أن قلة عدد الطلاب تتسبب في مشكلات توزيع الحصص وتهيئة الصفوف، مشيراً إلى أن هناك صفوفاً مخصصة لدرس التربية المسيحية واللغة السريانية، ومع اكتظاظ الطلبة في المدارس الحكومية ونقص الأبنية المدرسية حولت إلى صفوف عامة ليبقى صف السريانية “صغير جداً”.

وأوضح يونس أن المدارس الأهلية التابعة للكنائس استقطبت طلاب المكون المسيحي مما أدى إلى قلة عدد الطلبة الدارسين للغة السريانية في المدارس الحكومية، لكن الأخيرة مستمرة في تدريس اللغة مهما قل عدد الطلاب وحتى لو بقي طالب واحد.

كما أن هجرة المكون المسيحي أسهمت في إلغاء تجربة تدريس كل المواد بالسريانية، ويقول يونس “كانت هناك تجربة عام 2006 بتدريس كل المواد بالسريانية، لكن الهجرة بفعل سوء الأوضاع الأمنية أدت إلى إلغاء هذه التجربة”.

اختيار المدارس

ويبلغ عدد المدارس التي تدرس اللغة السريانية 43 مدرسة بين تعليم ابتدائي وثانوي وأهلي وحكومي، وعلى صعيد رياض الأطفال توجد روضتان تعتمدان السريانية في مناهجهما.

ويشرح مدير قسم الدراسة السريانية لتربية بغداد سنار مازن يونس آلية اختيار المدارس التي تدخل ضمن مناهجها السريانية قائلاً “قبل عام 2003 كانت هناك مدارس مشمولة بمادة التربية المسيحية وهذه المدارس غالباً توجد في الرقعة الجغرافية التي يعيش فيها المكون المسيحي، وبعد تأسيس المديرية العامة للتعليم السرياني أضيفت مادة السريانية لهذه المدارس التي تدرس التربية المسيحية، فضلاً عن ذلك فإن أية جهة كنسية تفتتح مدرسة ستكون مشمولة بالتعليم السرياني”.

ويرى يونس أن وسيلة الحفاظ على اللغة السريانية يكون بتعميمها على جميع الطلبة وألا تقتصر على طلاب المكون المسيحي قائلاً “هذه لغة ليست خاصة بالمسيحيين بل هي لغة العراق ولغة الحضارة والآثار، وهي اللغة التي كانت متداولة بالأسواق والمخاطبات الرسمية قبل انتشار اللغة العربية، ويفترض تعميمها على مرحلتين دراسيتين في الأقل ليكون الكل على اطلاع بها”.

مادة إثرائية

ويعتقد الأب إبراهيم سالم مدرس اللغة السريانية في ثانوية المسرة الأهلية للبنين للسريان الأرثوذكس أن الوسيلة الأهم للحفاظ على السريانية تكون بتغير طبيعة المادة من إثرائية لا تدخل في الامتحانات النهائية لمراحل الثالث المتوسط والسادس الإعدادي إلى مادة أساس داخلة في امتحانات المرحلة النهائية لكي ينالها القسط الكافي من الاهتمام.

ويقول سالم إن اعتبار السريانية مادة إثرائية إجحاف كبير بحق الطلبة المسيحيين الناطقين بهذه اللغة، مضيفاً أن “مسيحيي العراق حافظوا على ديمومة السريانية التي هي لغة الحضارة، وأسهمت الكنائس بصورة أساس في الحفاظ عليها، إذ تقيم دورات للغة السريانية بصورة مستمرة، ولولاها لاندثرت هذه اللغة”.

من جهته لا يستبعد رئيس قسم اللغة السريانية بكلية التربية جامعة صلاح الدين في أربيل كوثر نجيب عسكر تأثير هجرة المكون المسيحي في استخدام السريانية، لكنه يرى أن هناك عوامل أخرى تؤدي إلى قلة عدد المتحدثين باللغة الأم، من بينها المدارس الدولية والأهلية التي تدرس باللغة الإنجليزية من دون الاهتمام باللغة الأم، ولا يتوقع عسكر اندثار اللغة السريانية قريباً ولكنه لا يستبعده بعد مرور بعض الأجيال ومع الاعتماد على المدارس الإنجليزية.

العائلة واللغة

ويرى عسكر أن أقوى وسيلة للحفاظ على اللغة هي التحدث بها بين العائلة الواحدة، “فلو تحدثت كل عائلة في ما بينها بلهجتها الخاصة فلن تختفي هذه اللغة حتى لو بقيت عائلة مسيحية واحدة على وجه الكرة الأرضية وتكلمت بها فلن تموت اللغة”.

وفي السياق ترى مدرسة اللغة السريانية فرجين أيوب أن قلة عدد المتحدثين بالسريانية من الجيل الجديد في بغداد تحديداً هو بسبب غياب المجتمع المسيحي وقلة عدد المسيحيين، إذ إن التفاعل مع أبناء المجتمع الذي يتحدث بهذه اللغة وسيلة أساس ومهمة لديمومتها.

أما مدرسة اللغة السريانية في ثانوية القديس توما الأهلية للبنات سهامه زكر يسي فترى أن السريانية أصبحت متداولة كطقس كنسي أكثر من كونها لغة محكية بين أبناء الجيل الحديث.

ويعتقد الأستاذ في قسم اللغة السريانية بكلية اللغات – جامعة بغداد بهاء عامر عبود أن أهم وسيلة للحفاظ على السريانية تكون بالعمل على ترجمة وتحقيق نفائس المخطوطات السريانية المحفوظة في خزائن الأديرة والكنائس المسيحية ونشرها، فضلاً عن تفعيل دور الهيئة السريانية التابعة للمجمع العلمي العراقي، إذ توقف العمل فيها بعد عام 2003، لتأخذ دورها كمؤسسة علمية في العمل على السريانية وتطويرها إلى جانب المؤسسات الثقافية والتربوية والتعليمية.

ويرى عبود أن المناهج الدراسية المعتمدة في قسم اللغة السريانية وحّدت الطوائف المسيحية بمختلف لهجاتهم باعتماد السريانية الفصيحة كلغة للتدريس، وبالتالي حافظت على ديمومة واستمرارية اللغة.

المصدر: اندبندنت عربية

 

 

 

محرر الموقع : 2023 - 11 - 24