محمد باقر الصدر واليوم الأخير
    

المقدمة...

مرَّت حقبةٌ مظلمة من تاريخ العراق السياسي المعاصر مرَّةً بهمجية ووحشية صدام حسين ونظامه وعليه يقع اللومُ الأكبر والأعظم، ومرةً أخرى بتفاهة وغباء معارضيه على اختلافِهم، أسلوبا وليس مَوقفا، كانت فيها المعارضة العراقية (الإسلامية) تفضح في وسائل إعلامِها ما يرتكبه النظام من جرائمَ بحق الشعب العراقي بمُختلف إنتمائاتهِ السياسية والدينية والطائفية بأسلوب نقدي متميز، عالي الثقافة والطرح الفلسفي على أساس من الطهارة والنقاء الوطني لبلوغ (الدولة الكريمة) المنشودة. وقد تضيف عليها أحيانا بشيء من التشهيرعسى أن يكون مُؤثِّرا ونافعا على الساحة العراقية وفي مؤسسات المجتمع الدولي.

صفحاتُ تلك الحقبة تصورُها أقلامُ الكتابِ والباحثين والمتخصصين على أنها سوداء لن تتكرر كمثلها أبدا، سالت فيها الدماء وزُهِقت الأرواحُ ودُفنت الأطفالُ مع دُماهُم والنساءُ والرجالُ أحياءً في مقابرَ جَماعية من كلِّ القومياتِ والطوائفِ والأديان. وهناك جُرحٌ عميقٌ آخرَ لن يشفى كان قد ورثه شعبُ العراق، وورثه القلم والفكرُ والثقافة، وعمومُ المثقفين في العالم، فأضافَ على أحزانِهم حزنا آخرَ هو إستشهاد المفكر والمُمجدِّدِ والقائد والمرجع الكبيرالسيد محمد باقر الصدرفي سجون المتوحشين والجهلة الطغاة. بأشد اختصار...كان بإمكان تلك الأحزاب والجماعات وبعض الدول الإسلامية العمل بجدية على اطلاق سراحه أو جعل صدام يتراجع عن قرار الإعدام، مع تحفظنا على تلك الظروف الصعبة التي مرَّ بها العراق والعراقيون، وكيف السعودية وباقي دول الخليج قد لعبت دورا رئيسيا ومباشرا بالذي جرى على مرجعنا تقدست روحه الطاهرة. التقصير غير متعمد قطعا إنما يعبر عن جَهلهِم المُركَّب. إنتهت.

محمد باقر الصدر الذي عَرَفه المفكرون فيلسوفَ عصرِه، وعرَفه طلابهُ ومريدُوه وحوزةُ التجف الأشرف، بالمرجع والقائد، كما ذهبَ الكثيرُ من الكتّاب والمثقفين بأنه (أمة في رجل).

أمّا صدام حسين ومؤسستهُ الأمنية عرفوهُ عدوَّا يهدد ثورةَ السابع عشر من تموز، وأمنَ العراق القومي، فهو تابع الى إيران في زمن الإمام الخميني زعيم الثورة الفتية التي قادها وانتصر بها على أعتى نظام ملكي كما صنّفهُ المؤرخون على صفحاتِهم.

فالظرف الصعب الذي كان فيه السيد الصدر تحت الإقامة الجبرية يوحي الى أن المؤسسة الأمنية قد ضَمرت له الشر، لكنها تريّثت لعل هناك من يصرخ في أي رواق سياسي أو ديني ، مثلا في الأمم المتحدة أو الأزهر الشريف أو لدى فرنسا، أو تتحرك الشيعة في الباكستان لنصرته وخلاصه، وحتى آغا خان فهو مؤثر جدا في ذلك الوقت. فلما يأس المعنيون في نظام صدام ورأوا أن معارضيهم (فاشوشي) توكلوا على الشيطان الرجيم وقتلوه بعد تعذيبه، وكانت شقيقته العلوية الطاهرة بنت الهدى أيضا ضحية هذا السيناريو وذلك الغباء.

بكت عيونُ العالم الإسلامي والفكر والثقافة، وبكى محبوه والمتابعون، وبكت عليه حزنا المعارَضة الإسلامية المسلحة المُتمترسة بمقراتِها في وديان شمال العراق، فاتخذوا بعد سماعهم خبر الإعدام إجرائاتٍ صارمة بزيادة كميات الحمص والعدس والرز ومعجون الطمامة والطحين وباقي المؤونة الضرورية للمجاهدين الرابضين في مقراتهم القليلة المنتشرة في وديان وعلى سفوح جبال شمالنا الحبيب بحماية البيشمركة. فهي إمداداتٌ لعلها تنفعهم كونهم في حالة رباط قد يأخذهم الى احتلال بغداد، بينما آمر المقر يدفع بعناصر من المجاهدين الشباب والمتحمسين البلداء الى الداخل لإرسال بريد أو جمع الأخبار فكان أكثرهم يتم القبض عليهم ولم يعدوا إما بوشاية كردية أو نتاج جهلهم المركَّب. هكذا كانوا يعيشون ما بين الوهم والسراب.

اليومُ الأخير الذي زرتُ فيه إمامي ومرجعي السيد الصدر في ديوانية بيته في النجف الأشرف هو10 حزيران من عام 1979 قبل الظهر. قصدته من جهة شارع زين العابدين ثم الزقاق الضيق ( العكد أو الدربونه)، وقبل دخولي الدار بعشرة أمتار تقريبا صادفني في الزقاق السيد محمد صادق الصدر( تقدست روحه الطاهرة ) كان للتو قد خرج من ديوانية أخيه وبن عمه وأستاذه، وفي يده اليسرى كان يحمل كتابا مكتوبا عنوانه بلون الذهب ونظره على الأرض، ولا يبدو عليه الإرتياح. أديت عليه التحية من مسافة متر أو أقل بينما عناصر الأمن منتشرة في الزقاق على هيئة مشاة بدشاديش نجفية. دخلتُ الدار ثم ( البراني) الصغير الذي يكون مباشرة من جهة اليمين. لا يسع لأكثر من خمسة عشر زائر واحد أو إثنان منهم حتما من عناصر الأمن كمراقبين. تشرفتُ وتطهرت بتقبيل يدِه الكريمة قبل جلوسي أمامه من جهة يساره أي مقابل باب البراني وهو يرد على أسئلة الحضور بابتسامته الهادئة وخلقه الرفيع وطلعته الرائعة. عمامتة السوداء والصاية بلونها البني الداكن ومسبحته السوداء الناعمة تزيده وقارا، وقد وصفتُه منذ السبعينات ب... (جعفر الصادق الصغير). كان الشيخ النعماني شابا وسيما أراه يتحرك كثيرا وكان السيد يشيرعليه فيأتي ويجثم أمامه ويأمرُه بهَمس ليفعل ما يُأمر به. واحدة منها أوصاه بمد يد العون لفقير جاءه طالبا المال فأخذه الشيخ النعماني ملبيا طلبه ولو بشيء قليل قد لا يسد رمقه. قبيل أذان الظهر بعشرة دقائق تقريبا كررت التحية وانصرفت من باب الدار الى الزقاق، وحين ابتعدتُ مسافة أمتار أي قبل وصولي الى شارع زين العابدين إنقضَّت عليَّ مفرزة الأمن (كنتُ أتوقعها) ليسألوني عن سبب زيارتي السيد الصدر. أجبتهم وليس في جوابي من أثر سوى أنهم اقتادوني الى سيارتهم اللاندكروزالبيضاء المتوقفة على الشارع. كان معي في كل هذا السيناريو بن عمي الذي اقتادوه ايضا الى مديرية أمن النجف. ( الى هنا أتوقف عن سرد كامل القصة وقد تطول فتستحق مؤلَّفا وحتى لا يكون فيها مبالغة بتوصيف وحشية التحقيق في مديرية ألأمن وكيف وصل ملفي الى محكمة الثورة وعليه توصية بالإعدام...).

في ظروف أمنية سابقة كانت أكثر إنفراجا على النجف الأشرف وعلمائه صليت كثيرا خلف السيد الصدر في الحسينية الشوشترية التي لا تبعد عن داره، كنت في تلك الحقبة شابا أتطلع أن أكون في قلب الحدث في مواجهة نظام صدام حسين الذي أرفضه بجهلي وعلمي وفطنتي وسذاجتي. كان هوعندي كيانا لا أستسيغه أبدا.

وفي منتصف السبعينات صارت غرفتي فوق سطح الدار مدرسة يجتمع فيها نخبة متميزة من أصدقائي ندرس فصولا من كتاب المدرسة الإسلامية، بحث حول المهدي ، فلسفتنُا، اقتصادنا، البنك اللاربوي في الإسلام، وغيرها من فصول في الفتاوى الواضحة، أو في تخصصات لكثير من المفكرين أمثال مالك بن نبي.

تلك المرحلة من حياة جيلنا نحن العراقيين في بداية السبعينات نعتبرها طفرة متصاعدة في كل النشاطات ولو بمستويات متفاوتة ومختلفة التوجهات لكنها واضحة الأثر على مظاهرنا وحركتنا، كان فيها السيد الصدر المرجع الأهم في ديمومة كل نشاطاتنا، وليس بالضرورة أن يكون توجهنا سياسي بقدر ما هو فكري وعقدي. فما عُرف عنه أنه مدرسة فكرية تصحيحية، ومنهجا معتدلا، رصينا في كلِّ طروحاتهِ، ناهيك عن نقائهِ ومكارمِ أخلاقهِ ورصانةِ قيادتهِ. فكان بحق إنسانا عرفانيا، ومدرسة تستوعب كلَّ أهلِ الفكر والفلسفة من الإغريق حتى كال ماركس.

أمام هذا الصرحِ العظيم والمشهد التاريخي الذي التفَّت فيه الأمةُ حول قائدِها خصوصا من الشباب المثقف والواعي إمتعض الجاهلون الحُفاة في حكومة النظام ودوائرها الأمنية من رأس الهرم صدام حسين الى فاضل البراك مدير الأمن العام فقرروا تصفيته نهائيا لأيقاف الزحف الجماهيري الذي يدور حوله خصوصا بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وكيف أن لها تأثيرا مباشرا على العقول وفي النفوس لدى شعوب العالم.

فلما استشهدَ إمامُنا الذي ما نصفناه على الإطلاق بكينا عليه بنفاق أو بجهل أو بدافع الشعور بالضَعف.

على بركات ذكرى إستشهاد السيد محمد باقر الصدر أتوجه بنصيحتي لرموز القيادات التي تدَّعي أنها تمثل خطه الرسالي ونهجَه النقي من الذين تمتعوا بمناصب مهمة في الدولة العراقية الجديدة أن ينصفوا شهيدنا ببناء مؤسسات الدولة خير بناء، وبدعم الإنسان العراقي وصيانة حقوقه، والحفاظ على الوطن واقتصاده، وضرب كل أشكال الفساد حتى تكون تلك المؤسسات قادرة على إعادة إعمار البلاد وصيانته. فيبقى العراق قويا والمواطن عزيزا يتصدى مع دولته لطرد الأطماع الخارجية بكل أشكالها. إنها مسؤوليتكم أمام الله والمواطن والتاريخ.

فسلام عليك سيدي أبا جعفر يوم وُلدتَ ويوم سُجنت ويوم إستشهدتَ مظلوما وأنت شامخا بدينك وكبريائك.

قاسم محمد الكفائي Twitter…@QasimAlkefaee

محرر الموقع : 2021 - 04 - 11